هناك أحداث وتطورات تقع في منطقتنا العربية تعادل خطورتها حروب إسرائيل في غزة ولبنان، لكن الإعلام يبتعد عنها أو أنه لا يوليها الاهتمام الكافي، لأن الحروب ومآسيها نشاهدها «لايف» وعلى الهواء مباشرة، ولذلك ترانا ننغمس فيها ولا نلتفت إلى ما عداها، وبالتالي تصبح هذه الأحداث ثانوية أمام هول المجازر والتدمير والوحشية التي يقترفها الكيان الإسرائيلي دون وازع أو رادع، بل يتمادى بجرائمه بطلب وغطاء أميركي وقبول عربي ضمنياً.

حديثنا ليس عن الحرب الأهلية المدمرة بين عسكر السودان والمجاعة المستفحلة هناك، بل عن اتفاقية «عنتيبي» التي دخلت حيز التنفيذ يوم الأحد 13 أكتوبر 2024 معلنة إلغاء اتفاقيتي مياه النيل لعام 1929 واتفاقية 1959 اللتين تمنحان مصر حصة من المياه تقدر بـ55.5 مليار متر مكعب والسودان 18.5 مليار متر مكعب.

Ad

بالعربي الفصيح، إثيوبيا تملّصت وتخلّصت من قيود قانونية كانت عبئاً عليها، وأصبحت تمتلك حرية التحكم بمياه النيل، بعدما استطاعت أن تستقطب سبع دول في حوض النيل للتوقيع على اتفاقية عنتيبي باستثناء دولتي المصب، مصر والسودان اللتين اعترضتا على الاتفاقية.

صار مصطلح «الاستخدام العادل» لمياه النيل هو الورقة التي تستخدمها إثيوبيا بدلاً من الالتزام «بتوزيع حصص» كما كان سائداً منذ عام 1929 وما بعده، والاتفاقية الجديدة الموقعة عام 2010 أنهت تماماً مبدأ الحصص التاريخية، وأسقطت من مصر والسودان وثيقة كانت تعتبر المرجعية القانونية للمطالبة بحقهما في المياه وفق أرقام ثابتة.

أما الخلاف الرئيس في اتفاقية الإطار التعاوني لدول حوض النيل يتمثل في الفقرة (14ب) الخاصة بالأمن المائي، ففي حين يرى السودان ومصر أهمية الإشارة للحقوق المكتسبة التاريخية Rights يتحفظ السودان في الوقت ذاته على عبارة الاستخدامات الحالية current uses التي تصر عليها مصر، وذلك بسبب عدم استخدام السودان كامل حصته من المياه والبالغة 18.5 مليار متر مكعب، في حين يصر الجانب المصري على ضم ما تبقى من الحصة لصالحهم بإصرارهم على تلك العبارة، أي الاستخدامات الحالية، والحرص على عبارة «الاستخدامات الحالية» من جانب مصر يفسره الجانب السوداني بأنه محاولة من الجانب المصري لابتلاع «السلفة المائية» وجعلها حقاً مكتسباً ومستديماً لمصر.

الموقف الإثيوبي عبرت عنه وزارة الخارجية ببيان زفت فيه تهانيها لشعوب دول حوض النيل بدخول اتفاقية الإطار الشامل حيز التنفيذ، وهو «إنجاز كبير» بالنسبة إليها، بعدما عملت على تصحيح «أخطاء تاريخية» ستعمل على الاستخدام المنصف والمعقول لموارد المياه المشتركة.

تبعات هذه الاتفاقيات وما وصلت إليه عمليات الملء والتشغيل الأخيرة لسد النهضة ستنقل هذا الملف برمته إلى محطة جديدة غير محددة المعالم، بالرغم من استبعاد اللجوء للعامل العسكري تماماً، والتعامل سياسياً ودبلوماسياً مع موضوع السد كما أكد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وكما أعلن وزير خارجيته بأن النيل نهر دولي وليس ملكاً لإثيوبيا، وأن مصر ستدافع عن نفسها وحقها في حماية أمنها المائي في إطار القانون الدولي، علماً أن سد النهضة تسبب في خسارة مصر نحو 15% من أراضيه الزراعية، كشف عنها رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي الأسبوع الماضي.

معلومة قد تكون غابت عن البعض وهي أن السودان لم يستغل حصته كاملة والبالغة 18.5 مليار متر مكعب حسب اتفاقية 1959 لعدم وجود سدود كافية لتخزين المياه واستغلالها في فترة الجفاف، وعوضاً عن ذلك بقي الفائض يذهب إلى مصر تحت مسمى «السلفة المائية».