كيف لك أن تعرف أن تنتشي والحزن لا يقطع قلبك فقط، بل كل شرايينك وتفاصيل جسدك وأحاسيسك حتى تصورت للحظة أن الحزن قد انتصر عليك أو أنك أصبت بلوثة من الجنون، عام وقلبك ينعصر وعقلك تشتت من كثرة التفكير والبحث والاستقصاء ومحاولة فهم اللحظة أو فهم ردة فعل الكثيرين ممن يحيطون بك، تسمع بهم، تعرفهم من بعيد أو حتى أولئك الذين لم يكونوا على تقاطعات دروبك الحقيقية أو الافتراضية.
في لحظة تكاد تكرر سؤال ذاك الذي سمى نفسه زعيم «من أنتم؟»، كم كان سؤاله بلا معنى أو حتى فكاهي حتى صار هو الأكثر انتشارا والأحداث تتدحرج سريعا، فقبل أن تغمض عينيك وتفتحهما تكون هناك مجازر جديدة أو حتى محرقة، نعم فقد شاهدنا المحرقة مباشرة على شاشات البث المتنوعة للمرة الأولى في التاريخ الحديث، وكنا نسمع عنها كثيراً، وكان الفلسطيني يدفع ثمنا باهظا لما سمي محرقة رغم أن أحداً لم ينقلها ولم يصورها سوى ما تبقى منها، ومع ذلك فلم يتوقفوا عن التذكير بها في كل مفصل تاريخي، بل حتى دون أي مناسبة، فها هم الأطفال يحرقون أمام أعين العالم الذي لبس غمامة او أدار وجهه أو حتى التزم صمت القبور.
صور كثيرة لا تتحملها العدسات ولا الذاكرة، ورغم ذلك تبقى مسمرا تراقبهم، نعم تراقب أحبتك بوجوه متعبة، حزينة ومليئة بالأسئلة وأكثرها حضورا «أين أنتم؟»، بل أين العالم المتحضر المدافع عن حقوق الإنسان والأعراف الدولية والمطالب دوما باحترام اتفاقيات كتبت بعد بحور من الدم والعرق؟ أينكم؟ وهم يعجنون الخبز بالزعتر المتبقي إذا ما وجد ينثرون الأمل، ويرسلون رسائل أكثر إيمانا من ذاك المتربع على المنبر هنا أو هناك حامل لقب رجل دين أو رئيس أو زعيم أو ملك أو أمير، منتخب أو غير منتخب، كلهم توحدوا ليقفوا في وجه ذاك الطفل يقصفونه مرة فينجو هو وأخته ومرة ثانية فيفقد أخته وثالثة يجد نفسه برجل أو يد أو دون عين، ثم يمضي مع النازحين الذين تطاردهم القنابل شديدة الذكاء، لكنها بكل ذكائها لا تعرف سوى الموت لكل الأبرياء، لأرواح كل جرمها أنها قبضت على حفنة من تراب أرضها، وقالت لن أرحل، سأبقى هنا حتى آخر شجرة زيتون وآخر فراشة وآخر موجة وآخر نخلة بل آخر نفس.
هم يحبون الموت قال بعضهم أو بعضنا، فردوا هم عليه بأغنية أو نكتة أو بسمة تشير لمحبة حياة لم يعرفها أحد مثلهم، بل هم من يعلمون كل البشر معنى أن تحب الحياة بعيدا عن زيف الحيوات التي يرسمها بعض المحللين من الجهلة أو النصابين أو المرتزقة أو ربما فقط محبي المال أكثر من بلدهم وأرضهم وكرامتهم وهم كثر.
هذا عام انكشف فيه كثيرون، في البدء قلنا مساكين لم يقرأوا رسائل نتنياهو، بل من سبقوه وهي في مجملها توضح المخطط والمشروع، أشفقنا عليهم وأبقينا الود الذي كان، وقلنا الناس لا تتساوى في المعرفة ولا في الآراء خاصة عندما اكتشفوا تلك العبارة الممجوجة «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية» من الأحمق الذي أخبرهم أو علمهم بها ولم يفسر أن الاختلاف على الوطن والأرض والحق يفسد كل الود بل ربما يحوله الى جفاء، لا خلاف على الحق فهو أكثر وضوحا من الشمس حتى في أيام الخريف المعتمة.
قلنا توقفوا عن نشر أكاذيب الصهاينة وخاصة المستعربين منهم الناطقين بلغة الضاد، وهي بريئة منهم فلم يسمعوا، فقد كان هناك شيء من النشوة المشبوهة، بل صعب على العلماء والباحثين تفسيرها، فكيف ينتشي الإنسان في لحظة الموت خاصة إن كان اغتيالا جبانا من عدو أجبن؟ وكيف يفرح البعض ويشتم أشخاص قد ارتحلوا إلى ربهم شهداء حسب تفسير الكلمة في المعجم أو في الكتب السماوية؟
فجاء شهر أكتوبر وختم عاما من الصمود الممزوج بالآلام وتكون الخاتمة رغم أن الوجع كبير فإنه حزن ممزوج بنشوة الانتصار عندما يسجل كل في مكانه أمثلة ونماذج للقائد المتقدم الصفوف الذي لا يترك جيشه أو جنوده وحدهم، بل يقول لهم أنا قبلكم، فهذا ما أتمناه أن أموت في ساحة المعركة على أن أموت في فراشي، وألا أترك خلفي إلا ذكرى عطرة في حين الآخرون قد استعبدتهم الكراسي والمال.
هي لحظة حزينة جدا لكنها مليئة بنشوة نماذج إنسانية ستبقى أكثر حياة في مماتها من كثير من الأحياء منا، وستسجل الكتب والتاريخ بطولاتها وتضحياتها ويتعلم أحفاد أحفادنا عنهم ويرددون أسماءهم.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية