من سويسرا الشرق... إلى شريعة الغاب
أُفكّر... ماذا جرى لهذا العالم بحيث إن اللبناني الذي كان وطنه يسمى «سويسرا الشرق»، أصبح ينتشر في أصقاع الأرض يبحث عن لقمة العيش في دول العالم بعدما أغلقت في وجهه السبل؟
الذي جرى هو أن لبنان قد أصبح مجرد مكان تحكمه شريعة الغاب، ولكنها ليست على نهج «البقاء للأقوى» كما يقول تشارلز داروين، فكأن هذا البلد لا يخضع لقوانين المنطق والطبيعة! وكأنه طفرة غريبة في هذا العالم لم يسبق لها مثيل، خاصةّ مع استحالة إيجاد تفسير لما يمر به حالياً ومع صعوبة التوصّل إلى حل للعصفورية السياسية التي يعيشها.
داروين في كتابه «أصل الأنواع»، استخدم مصطلح «الاصطفاء الطبيعي» (البقاء للأصلح) أي أن البقاء ليس للأقوى بدنياً، بل بقاء النموذج الذي سيخلد نفسه في أجيال متعاقبة، من خلال التكيّف الأفضل مع البيئة المحلية الراهنة، وهنا قد أجمع الجميع أن لعنة اللبناني هي قدرته على التكيّف مع ظروفه الراهنة، بحيث يتحمّل مصاعب الحياة في بلد مثل لبنان مع استفحال الفساد ونهب المال العام وضياع المدخرات وغلاء المعيشة، وانعدام الأمن والأمان وانقطاع الكهرباء والماء، بالإضافة إلى شبكة مواصلات متهالكة وتراجع مستوى التعليم والخدمات الطبية وارتفاع الضرائب وما شابه، ولا نزال نرى اللبناني يصمد أمام ذلك بكل قوة، ويتقبل الأمر الواقع إلى درجة لا يسعى إلى تغييره.
وبالرغم من الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي المتسارع، تجد اللبناني متحملاً وكأنه فقد القدرة على الإحساس وتراه يقول «لا آبه كم ستسوء الأمور... بالمناسبة، هل من مزيد؟»، وهنا كذلك نجد أن اللبناني الذي يعيش في لبنان أصبح بالإمكان تصنيفه إلى فئات عديدة: فالأكثر حظاً هو الذي تمكّن من المغادرة وطوى صفحة لبنان من حياته، أما الأقل حظا فهو الذي بقي في لبنان ويعيش تحت مستوى خط الفقر، ومنهم كذلك الذي بقي في البلد بسبب عدم توافر الفرصة له ليغادر إلى حياة أفضل، لكنه يعيش على هامش الحياة، فهو بقي في بلده كالجيفة بلا روح ولا طموح ولا أحلام، حيث يسعى فقط ليأكل خبزه كفاف يومه غير عابئ بما يخبئه له اليوم التالي، هو وجود عبثي لا يحمل أي أمل في المستقبل.
أما الأصلح فهو الذي غادر لبنان لكنه لا يقوى على مفارقته، فيستمر في زيارة لبنان كلما سنحت له الفرصة، ولا يقطع صلة الوصل ويحرص على إرسال الأموال بحسب ما تسمح له إمكاناته المادية لإعانة ذويه أو أي من المحتاجين من حوله، فالجسد في الغربة ولكن القلب في لبنان.
أما أولئك من جماعة «الأقوى» الذين بقوا في البلد وقضوا عليه فهم كثيرون، منهم الذين أحكموا قبضتهم على البلاد، ونهبوا خيراتها واستعبدوا ناسها، وتزعموها تحت عنوان المذهبية والطائفية والمناطقية والتبعية العمياء للجماعة أو لأي قضية كبرى يمكن المتاجرة بها، هذه الفئة التي بقيت في لبنان بقيت بالتحديد لأنها كالعلقة تعيش على امتصاص دماء الشعب ونهب ثروات البلاد كونها تحتاج إلى الدماء لتبقى حية، كل ما لديها من كفاءات ومعرفة يتلخص بكلمة واحدة: مص الدماء، وهي ليست الفئة «الأقوى» التي تحدّث عنها داروين لكنها الأكثر شراً، هي معدومة الضمير والأخلاق، وتعيش على ضعف سكان البلد وقلة حيلتهم واستسلامهم للأمر الواقع.
أما الفئة الأخرى من جماعة «الأقوى» التي بقيت في هذا البلد فهي كالفيروس، فالفيروس لا يمكنه العيش من دون الاتصال بجسد صحيح ليمرضه، هذه الفئة هي من المنتفعين الذين يصنّفون بأنهم جماعة الزعيم، هم الذين ينفّذون أفكاره وسياساته وهم الأذرع التي يمتلكها كل زعيم في الوزارات وكل مفاصل البلد، وهي الأدوات التي تنفّذ له ما يريد وتتمّم له صفقات الفساد وتغطي عليها، هذه الفئة التي باعت روحها للشيطان لقاء أجر ومناصب ونفوذ وحسابات مالية في الخارج هي أحقر من الزعيم نفسه، لأنها أدواته التنفيذية في دق كل مسمار في نعش الوطن.
عذراً داروين... لبنان لا تنطبق عليه نظرية الانتقاء الطبيعي والبقاء للأقوى، فإن الفاسد هو من بقي، أما المغلوبون على أمرهم من الذين بقوا فلا ينطبق عليهم البقاء للأقوى، بل البقاء لمن لا يقوى على المغادرة.