لقد شهدت السنوات الأخيرة تطوراً هائلاً في مجال الذكاء الاصطناعي الذي بات يُستخدم في العديد من المجالات، بما في ذلك السيارات ذاتية القيادة، والطائرات المسيّرة، وصولاً الى الروبوتات المستخدمة في الصناعات الطبية والعمليات الجراحية.
وهنا صار التساؤل مشروعاً عن مدى صحة اعتبار أنظمة الذكاء الاصطناعي «كياناً قانونياً» يتحمل المسؤولية- ولو الجزئية- عن الأخطاء التي يرتكبها، الأمر الذي يتبع بتساؤلات حول كفاية المنظومة القانونية الجنائية والمدنية في مواجهة ما قد ينتج عنه من أخطاء غير مقصودة وارتكابات غير مشروعة، فما القوانين التي تُطبق على الجرائم التي ترتكبها روبوتات أو أنظمة ذكاء اصطناعي؟ ومن يتحمل المسؤولية: الشخص الذي قام ببرمجة الروبوت؟ الشركة المصنعة؟ أم الروبوت ذاته؟
في سياقات القانون التقليدية، تعتمد المسؤولية الجنائية والمدنية على فكرة أن الشخص المتسبب في الضرر هو إنسان عاقل مدرك ويتمتع بالقدرة والإرادة، لكن مع ظهور الذكاء الاصطناعي أصبحت هذه المفاهيم بحاجة إلى إعادة نظر أو على الأقل أصبحت بحاجة للتوقف المليّ عندها.
في القانون الجنائي، تجرّم الأفعال على أساس توافر النية الإجرامية أو الخطأ، ولكن مع أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تتصرف بعيداً عن التدخل البشري، يطرح السؤال: كيف يمكن محاسبة جهاز ليس لديه وعي أو نية؟ من هنا، يتوجه النقاش القانوني نحو مساءلة الأفراد أو الجهات التي أوجدت أو تملك هذه الأنظمة أو تتحكم بها بطريقة أو بأخرى.
طرحت هذه التساؤلات في الولايات المتحدة الأميركية عام 2018، وذلك إثر حادثة مشهورة قتلت فيها امرأة نتيجة صدمها بسيارة «ذاتية القيادة» تتبع لشركة أوبرUber، أثناء نظر المحاكم بالقضية لم يتم توجيه اتهامات جنائية مباشرة إلى الشركة، بل اعتُبر السائق الذي كان جالساً خلف عجلة القيادة متحملاً للمسؤولية الجزئية لعدم التدخل السريع، مما سلط الضوء على مدى قدرة المحاكم على توزيع المسؤولية بين الإنسان والتكنولوجيا.
من ناحية أخرى تستهدف القضايا المدنية الحصول على التعويض الجابر للضرر وفق القواعد الخاصة بالمسؤولية المدنية، الأمر الذي برزت تحدياته مع ظهور الأنظمة الذكية، وفي السياق أصدرت محكمة العدل الأوروبية حكمًا في عام 2021 يتعلق بمسؤولية شركات التأمين في الحوادث الناجمة عن السيارات ذاتية القيادة، وقد اعتبرت المحكمة أن المصنعين والشركات المطوّرة يتحملون المسؤولية الأولية في حالة حدوث خطأ تقني، بينما تبقى مسؤولية الشخص الذي يستخدم السيارة ثانوية... وكذلك حمّلت المحاكم الأميركية شركة تسلا (Tesla) جزءاً من المسؤولية بسبب قصور برمجيات سيارتها الذكيّة بالتنبؤ بالسلوك غير المتوقع على الطريق، في حين حمّلت المحاكم الأوروبية مصنعي ومبرمجي الروبوتات الطبية المسؤولية بعد حوادث جراحية فاشلة نتيجة خلل في برمجيات الروبوتات بالتعامل مع ظروف طبية معقدة.
وفي المجال التشريعي، ورغم صعوبة وبطء المواكبة القانونية للتقدم التكنولوجي المتسارع في مجال الأنظمة الذكية، تسعى الدول المتقدمة إلى وضع أطر قانونية حديثة لتنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي بما يضمن وجود ضوابط محددة لتطوير واستخدام الأنظمة الذكية بشكل آمن، وفي السياق حدد قانون الاتحاد الأوروبي الخاص بالذكاء الاصطناعي فئات معينة من الأنظمة التي قد تكون «عالية الخطورة»، مثل السيارات ذاتية القيادة والروبوتات المستخدمة في المجال الطبي، بما يُلزم في شكل واضح المصنّعين والمطورين بتحمل المسؤولية عن أية أضرار أو أخطاء متوقعة.
أما في المنطقة العربية، بما في ذلك الكويت، فإن النقاش القانوني حول الذكاء الاصطناعي لا يزال في مراحله الجنينية، فمعظم الأنظمة القانونية في العالم العربي لم تصدر بعد تشريعات محددة تتناول المسؤولية عن الأفعال المرتكبة بواسطة الأنظمة الذكية، كما لم يتم تنظيم مراحل جمع واستخدام وتخزين وحماية البيانات الشخصية في ظل الاعتماد الكبير للأنظمة الذكية على البيانات الضخمة Big Data، ولم يتطرق المشرعون بعد لمعايير الحصول على تراخيص لتشغيل السيارات ذاتية القيادة في الكويت، كما غفلوا عن تنظيم التأمين الخاص بالأنظمة الذكية، ولم يتم الزام المطوّرين باتباع معايير أخلاقية محددة أثناء برمجة هذه الأنظمة... إلخ.
بقي القول إن النتيجة الحتمية لأي تأخير تشريعي وتنظيمي في مجال الذكاء الاصطناعي، هي وضع القضاء العربي والكويتي أمام حتمية الاعتماد على المبادئ العامة التقليدية للمسؤولية المدنية والجنائية، وهو ما قد لا يكون كافياً للتعامل مع تعقيدات الجرائم الناتجة عن الذكاء الاصطناعي، مما يوجب على سبيل السرعة والضرورة تأهيل القضاة في كل ما يخص المعارف القانونية والفنية ذات الصلة بطبيعة الذكاء الاصطناعي، وكيفية عمله، والقدرة على تحديد الجوانب الفنية التي تؤثر على مسار القضايا المنظورة.
هذا الواقع يقود الى أهمية الاستعجال في الكويت بتشكيل لجنة وطنية متخصصة لتطوير قوانين الذكاء الاصطناعي تضم خبراء قانونيين وتقنيين، مع تعزيز التعاون مع الدول التي تمتلك تجارب متقدمة في مجال التشريعات الخاصة بالذكاء الاصطناعي، إضافة الى تشجيع البحوث الأكاديمية حول القانون والتكنولوجيا في الجامعات الكويتية لابتكار حلول قانونية تناسب البيئة الكويتية، دون أن نغفل أهمية وجود جهة مختصة يعهد لها تنظيم عمل الأنظمة الذكية وضمان مطابقة المنتجات والتعاملات من خلال الذكاء الاصطناعي للمعايير القانونية والأخلاقية.
* كاتب ومستشار قانوني