مثّل قرار مجلس الوزراء الأسبوع الماضي بتحديد سلسلة من المحظورات على أداء وأعمال ديوان المحاسبة تقويضاً لصلاحيات أكبر جهة مستقلة في البلاد تتولى الرقابة على أوجه المصروفات والإيرادات العامة، بما يرفع احتمالات الضغط على ترتيب الكويت في مؤشرات الشفافية الدولية.

فقرار مجلس الوزراء لم يقتصر على منع نشر تقارير «المحاسبة» في موقعه الإلكتروني لتكون متاحة للعامة، بل امتد إلى تقليص صلاحية الديوان في العديد من الجوانب الرقابية الإدارية أو المالية، مثل حظر الحصول على نسخ من المستندات مع جواز، لا الإلزام، الاطلاع عليها، كما مُنع الديوان من الاعتراض على عدم تعيين مجالس الإدارات والقياديين، فضلاً عن امتداد تفسير المادة 128 من الدستور التي تفيد بسرية مداولات مجلس الوزراء لتشمل حظر إدراج ملاحظات على الأمانة العامة لمجلس الوزراء أو جهاز متابعة الأداء الحكومي، وهما جهازان إداريان يختلفان كلياً عن أعمال مجلس الوزراء كسلطة تنفيذية، ناهيك عن إلزام الديوان بقرارات مجلس الوزراء تجاه «المسائل الخلافية» مع الجهات الحكومية بحيث لا تدرج الملاحظات، وهي بالأصل أقل من المخالفات في تقاريره السنوية.

Ad

كما حدد قرار مجلس الوزراء محظورات تفصيلية أخرى أقل وزناً من سابقاتها، من قبيل منع إدراج البيانات الشخصية للموظفين، وحظر دخول الديوان إلى الأنظمة الآلية للجهات الحكومية، إلى جانب التقيّد بالمدد الخاصة بالرقابة المسبقة.

أزمة ثقة

ومع التأكيد على أن عمل ديوان المحاسبة خلال السنوات الماضية لم يكن مثالياً، بل ثمة أزمة ثقة كامنة تنامت في السنوات الأخيرة بين الديوان، باعتباره جهة رقابية، والجهات الحكومية باعتبارها جهات تنفيذية، حول قضايا فنية تفصيلية تتعلق بالفرضيات الرقابية والضروريات التنفيذية، لكن علاج هذه الأزمة الكامنة يكون بمناقشتها ومحاولة إيجاد الحلول الواقعية التي تضمن جودة الأداء الرقابي ومهنية العمل التنفيذي، وهو من صلب عمل الإدارة العامة، التي يتولى مجلس الوزراء حالياً مجمل اختصاصاتها التشريعية والتنفيذية.

في المقابل، من المهم أيضاً الاعتراف بالتطور الذي شهده ديوان المحاسبة في السنوات الأخيرة في أعماله، مما انعكس إيجاباً، ولو نسبياً، على ترتيب الكويت في مؤشرات الشفافية، فعندما نشر أول تقرير للديوان عن أعمال الجهات المشمولة لرقابته العام 2016 كان ترتيب الكويت على مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية عند الـ 75 عالمياً، قبل أن يتحسن ترتيبها إلى 63 عالمياً في العام 2024... وبالطبع كان نشر تقارير الديوان للرأي العام أحد عوامل التحسن في مؤشرات الكويت الدولية، والتي تحتاج لمزيد من العمل والتطوير.

الرأي العام

كما أن نشر التقارير على موقع ديوان المحاسبة أعطى العديد من الجهات المقصرة اهتماماً بتحسين جودة أعمال والعمل على معالجة المخالفات والملاحظات تحاشياً لانتقادات الرأي العام، سواء كانت إعلامية أو صحافية أو نقابية أو حتى «دواوين» وعلاقات اجتماعية، بالتالي فإن فرصة اطلاع للرأي العام على المخالفات والملاحظات وإمكانية النقد البناء من المختصين والمجتمع باتت في أدنى مستوياتها مع حظر النشر للتقارير الرقابية، وهو في حقيقته إعفاء للمقصر من رقابة وتقييم ونقد الرأي العام، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حظر النشر «يظلم» الجهات والمؤسسات التي تحقق متطلبات رقابة وحوكمة، وإنجازات عالية فتكون بعيدة عن التقييم الإيجابي من الرأي العام... وهو أمر فيه الكثير من انعدام العدالة بين المنجز والمقصر، والأهم من ذلك أثره السلبي غير المباشر على مؤشرات التنافسية الدولية الخاصة بتطور الأداء في مجالات الأعمال والبيروقراطية الحكومية وكفاءة المؤسسات بما يسمح ببيئة محفزة لانتشار جرائم الفساد والرشوة.

إلقاء الضوء

كما أن تقارير ديوان المحاسبة خلال السنوات الأخيرة، ألقت الضوء، بشكل أكثر شمولاً من مجرد رصد الملاحظات والمخالفات، على الاختلالات في الإدارة العامة التنفيذية والتشريعية كدور الفساد في تعطيل التنمية، وإضاعة موارد الدولة واختلالات الإنفاق المالي إلى جانب القصور التشريعي في إعداد القوانين الكويتية، وهذه توجهات رقابية متقدمة من الأفضل على صعيدي الشفافية والحوكمة الحرص على استمرارها، بل وتنميتها وصولاً إلى إيجاد آليات لمعالجتها خصوصاً أن معظم التوجهات، التي يستعرضها ديوان المحاسبة يشكو منها القياديون في الجهات الحكومية المختلفة، بالتالي فإن ما تتضمنه مقدمات التقارير السنوية والتقارير نفسها لديوان المحاسبة تخدم التوجهات الحكومية بالإصلاح إذا كانت هذه التوجهات جادة وصادقة.

غير معيقة

لعله من المفيد القول، إن رقابة ديوان المحاسبة لم تكن يوماً معيقة لإنجاز المشاريع التي يتزايد الحديث عنها في الفترة الحالية، كإصلاح الطرق أو إتمام ميناء مبارك الكبير أو إنشاء مدينة العبدلي الاقتصادية والعديد من المشاريع الأخرى، إذ تشير حالة سابقة إلى أن علّة ضعف الإنجاز مرتبطة بالتنفيذي لا الرقابي، وليس أدل من إلغاء مجلس الأمة العام 2016 الرقابة المسبقة على المشاريع الإسكانية لمدة 5 سنوات لحل الأزمة وتقليص قوائم الانتظار - كما أعلن وقتها - وهو مالم يحدث بل إن الأزمة الإسكانية تفاقمت ووصلت إلى طريق يحتاج إلى فلسفة جديدة للرعاية السكنية تتضمن جودة الإدارة وتنويع المنتجات وتسريع تأهيل الأراضي وغيرها وليس إلغاء الرقابة أو تقييدها أو خفض شفافيتها.

واقع وحاجة وسمعة

كان من المفترض منطقياً، ما دام أن مجلس الوزراء يتولى بشكل استثنائي مجمل الصلاحيات التشريعية والتنفيذية في البلاد، أن يكون لديوان المحاسبة، كونه مؤسسة مستقلة صلاحيات أوسع وأبعد نطاقاً ودوراً في تقويم أي قصور أو انحراف تنفيذي، بما يخدم الحاجة إلى حوكمة ومهنية الأداء داخلياً، ويقي البلاد أي سمعة سلبية أو ضغوط على تصنيفاتها في مجالات الشفافية ومكافحة الفساد دولياً... إلا أن واقع الحال كان في اتخاذ إجراء مخالف للواقع والحاجة والسمعة!