بلد لا يحترم تاريخه مصيره إلى زوال
قال جبران خليل جبران في لبنان: «لكم لبنانكم ولي لبناني... لبنانكم عقدة سياسية، ومعضلة وطنية، ومكان صراع وخداع، أما لبناني فهو مكان الجمال وأحلام الوديان الساحرة والجبال الرائعة». قالها جبران منذ 100 عام ولا يزال التاريخ يعيد نفسه... لا يزال لبنان أرضاً خصبة للصراعات والنزاعات والفساد السياسي والمالي والإداري، والمواطن اللبناني يقع ضحية هذه الأوضاع ولا يجد حلاً إلا بالهجرة، فاللبناني الذي ينحدر من حضارة يصل عمرها إلى سبعة آلاف عام، يهاجر هذه الأرض ليصبح عاملاً أجيراً عند دول أخرى حديثة المنشأ لا يتجاوز عمر حضارتها مئات الأعوام.
نحن، اللبنانيين، نتحدّر من سلالة تعتبر من أعرق شعوب العالم القديم، وقمنا ببناء أقدم العواصم في العالم، عاصمتنا الجميلة بيروت، ست الدنيا، بالإضافة إلى جبيل وصيدا وصور وطرابلس وغيرها، نحن، الفينيقيين، الذين صدّرنا الحرف وعلّمنا العالم القراءة والكتابة، نحن بلاد الأرز، نحن من بنينا السفن، وكنا أوَّل التجّار وأبحرنا في حوض البحر المتوسط، وانتشرت حضارتنا من صور الى قرطاج.
نحن من اكتشفنا اللون الأرجواني، نحن من صدّرنا الى العالم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وحسن كامل الصباح، ومن لبنان تمكّن العالم من الاستيقاظ صباحاً على الصوت الملائكي للسيدة فيروز والشحرورة صباح والعملاق وديع الصافي، لبنان الذي كان بنك الشرق الأوسط ومركزه الصحي، لبنان السياحة والعلم والمهرجانات والرسم والموسيقى والأدب.
نحن ما كان يُعرف بسويسرا الشرق، ولبنان الذي بالرغم من صغر حجم مساحته كان قبلة الأنظار للمنطقة بأكملها، نحن من توالت الحضارات على أرضنا بحيث أصبحنا رمز الانفتاح والعلم والتنوع والتحضّر والغنى الثقافي، لبنان الذي يضم آثاراً خَلَّفتها أهم شعوب المنطقة مثل الفينيقيين والآشوريين والفرس والإغريق والرومان والروم البيزنطيين والعرب والصليبيين والأتراك العثمانيين والفرنسيين.
نحن شعب لبنان الذي ثار على الظلم والاستبداد ووقف في وجه الأتراك، نحن شعب لبنان الذي ثار على المحتل الفرنسي حنتى نال استقلاله والذي دفع ثمنه من دماء شهدائه وأبطاله، أمّا الآن... نحن شعب لبنان الذي يرحل عن حضن الوطن الى وحشة الغربة، بل طُردنا يا لبنان، تم إبعادنا عن أرضك مكرهين.
فساد السياسيين والحكام في لبنان سيفترس الوطن بأكمله، هل من بين هؤلاء القادة من يتجرأ أن يقول إنه عندما يموت فهو ترك وطناً أفضل بقليل مما وجده عندما ولد؟ فساد الحكام والطبقة السياسية المرتهنة للخارج هو السبب في أن عدد اللبنانيين في بلاد الاغتراب يبلغ أضعاف عدد اللبنانيين داخله، هؤلاء الشياطين هم من أدخلوا لبنان في حروب أهلية دامية فيما بينهم، وفي حروب مدمرة مع محيطهم، إنها لعنة التاريخ ولعنة الجغرافيا.
أليس من المفروض أن يكون لبنان متربعاً الآن على قائمة أعظم دول العالم نظراً لتاريخه الغني والعريق والحافل بدلاً من أن يتقاتل اللبنانيون فيما بينهم ويمزقون بلدهم إرباً ويفسدوا به حتى وصل إلى الاهتراء؟
ليس المؤسف أن الدول الأكثر حداثة منّا قد سبقتنا وتفوّقت علينا، بل المؤسف أننا رمينا بتاريخنا أدراج الرياح وجعلنا كل إنجازات أجدادنا تذهب هباءً وكأن شيئاً لم يكن... كل الرجالات الذين أسسوا لهذا البلد العظيم وضحّوا بالغالي والنفيس من أجله هم يتلوّون الآن في قبورهم، أما نحن، الموجودين الآن، فإننا نشهد انهيار لبنان العظيم إلى دولة فاشلة محكومة بالزوال والتقسيم والاضمحلال، ونتلوّى ونحن أحياء.