أوروبا والنذير

نشر في 27-10-2024
آخر تحديث 26-10-2024 | 19:46
 بروجيكت سنديكيت

كان المقصود من تقرير ماريو دراجي عن حالة الاقتصاد الأوروبي أن يعمل كنداء تنبيه، ولكن هل يُسمَع جرس التنبيه الذي أطلقه دراجي، أو هل يضغط صناع السياسات الأوروبيون على زر الغفوة (زر على المنبه يوقف الجرس لينطلق ثانية بعد قليل)؟

يشير التقرير إلى ثلاثة مجالات تواجه فيها أوروبا تحديا اقتصاديا: يأتي الاتحاد الأوروبي متأخرا عن الولايات المتحدة والصين في الإبداع والابتكار، وخاصة في المجالات التي تنطوي على تكنولوجيات متقدمة، وقدرته التنافسية معوقة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، كما تعمل صناعة الدفاع الـمُـفَتَّـتة على إضعاف أمنه.

يزعم التقرير بعد ذلك أن التكامل الأعمق مطلوب لمعالجة أوجه النقص هذه، الواقع أن أوروبا في احتياج إلى استكمال اتحاد أسواق رأس المال لتعزيز صناعة رأس المال الاستثماري، وهي تحتاج إلى تقليل عدد الحواجز التنظيمية حتى تتمكن الشركات الجديدة من التوسع، كما يتعين عليها أن تعمل على بناء شبكة كهرباء متكاملة وتنسيق الاستثمارات في مجال إزالة الكربون لخفض تكاليف الطاقة، ويتعين على أوروبا أن تتعهد بمزيد من الإنفاق الدفاعي على مستوى الاتحاد الأوروبي، وهنا تنعكس تكاليف الفشل في التعاون في حقيقة مفادها أن أوروبا تنتج وتشغل 12 دبابة قتالية، في حين تركز الولايات المتحدة على دبابة واحدة فقط.

كل هذا يعني ضمنا الحاجة إلى اتخاذ مزيد من القرارات المشتركة، وهو ما يضع أوروبا عند منعطف حَـرِج آخر حيث يتعين عليها الاختيار بين الوضع الراهن والقفزة الكمية نحو تكامل أعمق، وقد اتخذت أوروبا مثل هذه القفزات من قبل، فوافقت على إنشاء السوق الموحدة في عام 1986، وقدمت اليورو في عام 1999، وتحركت نحو الاتحاد المصرفي في عام 2012، لكن هل تؤدي التحديات التي حددها تقرير دراجي إلى ردة فعل مماثلة؟

تتمثل إحدى الإجابات، التي تبناها جان مونيه، الأب الروحي الفكري للاتحاد الأوروبي، في حقيقة مفادها أن القفزات الكمية في التكامل الأوروبي تحدث عندما يدرك القادة عدم وجود طريقة أخرى لتجنب الأسوأ، ويسعى تقرير دراجي إلى الاستفادة من هذه النظرية من خلال تبني لغة الأزمة.

ولكن ليس كل شخص قد يتفق على أن التحديات التي تواجه أوروبا ترقى إلى مستوى الأزمة الوجودية، علاوة على ذلك، حدثت بعض القفزات الكمية في التكامل الأوروبي خلال فترات من الاستقرار النسبي، وكان تقرير ديلور، الذي أرسى الأساس لليورو، متبوعا بأزمات مالية، بدلا من التفاوض عليها في الاستجابة لها، ولم تعمل بعض الفترات التي عصفت بها الأزمات، مثل سبعينيات القرن العشرين، على التعجيل بالتكامل، بل كانت نذيرا بقدوم «عصر مظلم» أو عقد ضائع من التقدم الراكد نحو «اتحاد متزايد التقارب»، ومن الواضح أن نظرية مونيه غير محددة بالقدر الوافي.

ثم هناك ما يسمى بنظريات النفعية الجديدة للتكامل الأوروبي، والتي تقترح أن أوروبا إذا تمكنت بطريقة ما من تحريك عملية التكامل في مجال واحد، فإن التقدم الذي تحرزه سيمتد إلى مناطق تتعلق بمجالات أخرى.

وعلى هذا فإن إنشاء السوق الموحدة، الذي استلزم إزالة ضوابط رأس المال، فرض الضغوط التي دفعت باتجاه الانتقال إلى العُـملة الموحدة، الأمر الذي خلق بدوره ضغوطا دفعت باتجاه الاتحاد المصرفي، فمن الناحية الاقتصادية، كانت العملة الموحدة تعني مزايا إضافية ترتبط بالكفاءة بمجرد إنشاء السوق الموحدة، كما كانت الحال مع المشرف المصرفي الموحد بمجرد تقديم العملة الموحدة، ومن الناحية السياسية، خلقت إزالة ضوابط رأس المال خيار الخروج للمصالح المالية، التي استخدمت نفوذها للدفع نحو العملة الموحدة والاتحاد المصرفي.

لكن الأحداث الأخيرة تذكرنا بأن القرارات السياسية لا تأتي دوما مدفوعة باعتبارات الكفاءة، وليس من الواضح أيضا أي اتجاه سيكون مدفوعا بالمصالح الخاصة، ففي الوقت الحالي، يقاوم الساسة في برلين الجهود التي يبذلها بنك يوني كريديت الإيطالي لشراء حصة مسيطرة في كوميرز بنك الألماني، ولتحل اللعنة على التأثيرات الوظيفية الجديدة، ومن الواضح أن الضغوط الرامية إلى التعجيل بالتكامل من شأنها أن تُـعَـجِّـل بالقدر ذاته بإحداث ردة فعل عكسية، بدلا من خلق الزخم إلى الأمام.

أو يزعم بعض المراقبين بدلا من ذلك أن التكامل الأوروبي تدفعه أو تعرقله المساومة العنيفة بين الحكومات، وسيحدث التكامل إذا تقاربت المصالح الوطنية، إذا رأت كل الحكومات نفسها مستفيدة من مزيد من التعاون في الإنفاق الدفاعي، على سبيل المثال، لكن التاريخ يشير إلى أن بعض الحكومات ستخشى أن تتضرر بلدانهاــ لأن صناعاتها الدفاعية المحلية ستعجز عن الاستمرار في العمل- الأمر الذي يدفعها إلى مقاومة الدعوات إلى التكامل الأعمق.

أو ربما تستطيع الحكومات أن تبتكر صفقات سياسية مفيدة لكل الأطراف، كما حدث في تسعينيات القرن العشرين، عندما تخلت فرنسا عن معارضتها لإعادة توحيد ألمانيا في مقابل التزام ألمانيا بالمضي قدما في عملية توحيد العملة، ونظرا للتحديات المتعددة المتشابكة التي حددها تقرير دراجي، فإن تحديد مثل هذه الصفقات السياسية التي تحقق المنفعة المتبادلة يشكل نهجا ربما يكون واقعيا وثابتا.

تشير وجهة نظر أخيرة إلى أن الحكومات الوطنية توافق على التكامل الأعمق عندما يعمل على تعزيز قوتها على المستوى المحلي، إذا تمكنت الحكومات من الوفاء بالوعود السياسية المحلية بقدر أكبر من الفعالية عندما تعمل في انسجام، فستجني قوى فاعلة وطنية الدعم الشعبي (والانتخابي). في خمسينيات القرن العشرين، عملت الحكومات على تعزيز شعور ناخبيها بالأمن من خلال إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب والتي حبست ألمانيا سلميا داخل أوروبا، وفي الثمانينيات، حققت الحكومات الرخاء من خلال إنشاء السوق الموحدة، ونتيجة لهذا، تعززت قوة الحكومات الوطنية بفضل هذه المبادرات التكاملية.

لقد فتح تقرير دراجي الباب أمام خطوات مماثلة، وسيتضح قريبا ما إذا كان الزعماء الأوروبيون مستعدين للمرور عبر هذا الباب.

*باري آيكنغرين أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وكبير مستشاري السياسات الأسبق في صندوق النقد الدولي، ومؤلف العديد من الكتب، بما في ذلك في الدفاع عن الدين العام.

back to top