كل شخص تلتقي يطمرك بالأسئلة أو الاستفسارات أو حتى التلميحات، وبعضهم يهوى أن يتحول إلى محلل للأحداث عارف ببواطن الأمور وتوجهات السياسات العامة في الدول القريبة والبعيدة ولمَ لا وهناك كل هذه الأعداد من المحللين والخبراء والمختصين السياسيين والعسكريين والاستراتيجيين الذين خرجوا فجأة ليملؤوا ساعات البث على شاشات التلفزة او عبر وسائط التواصل المختلفة؟!

كل من استهوته الشهرة أو أحب التعبير عن غضب أو فرح أو شماتة، كلهم وجدوا لهم مساحات وجمهوراً في كثير من الأحيان يتابعهم ويعلق بكلمات مثل «أحسنت» ومديح وإطراء من جيوش من غير المطلعين أو مدّعي المعرفة أو فقط من الجهلة الذين لم يقرؤوا ولا يقرؤوا ما يحدث الآن، فكيف لهم أن يقرؤوا دروس التاريخ ويستوعبوها؟

Ad

نعم هناك إبادة جماعية، وإلغاء وتدمير، واستعمار يطمح أن يمد حدوده، فيضم مدناً وبحاراً وأنهاراً وخلجاناً وجوامع وكنائس وأماكن مقدسة وأخرى تاريخية تخص شعوب تلك البلدان فقط، نعم فمن يقوم بذلك ليس وحده، بل تكالب العالم «المتحضر والمتطور» لمساندته في القتل والدمار ومزيد من الموت المعلّب في شعارات الدفاع عن النفس أو القضاء على الإرهاب، أو حتى تلك الكذبة الكبيرة التي يرددها بعض المواطنين من هذا البلد أو ذاك وإخوتهم لا يزالون أحياء تحت الحجارة والصواريخ تلاحقهم، الكذبة التي تقول «نحن سنحول هذه البقعة أو تلك المدينة أو القطاع إلى واحة من الرخاء والجمال والسعادة كما حال ذاك البلد». في حين لا يعرفون الرخاء والتنمية السعادة وكلها في لغتنا لها معان متعددة وتعريفات أيضا.

نعم أيضا إن كثيرين منا لم يتصوروا حتى في أحلامهم الواسعة أن تُشنّ حرب إبادة بهذه الوحشية والفجور أمام أنظار العالم لحظة بلحظة، وهو أي العالم يقف إما صامتا وإما مندداً على حياء أو ربما فقط يطالب الضحية أن يتوقف عن الدفاع عن نفسه ويستسلم للمحتل الذي يرتكب أكبر حرب ليس على فلسطين ولبنان واليمن وسورية فقط، بل على الإنسانية في عمق مفاهيمها التي نصت عليها الأعراف والقوانين الدولية التي بقيت شماعة تلوح بها الدول الكبرى في وجه كل من يختلف معها أو يعارضها.

وسط كل هذا الاعتراف بأنها حرب إبادة موجعة ومدمرة ودامية وقد تعيد المنطقة برمتها الى ما قبل سايكس بيكو ويتجول ذاك الرجل الأبيض المخمور، سواء كان إنكليزيا أو فرنسيا أو أميركيا أو صهيونيا، ويمسك بعصا يرسم فيها حدود هذا البلد أو ذاك فوق الرمال والكثبان فيقسم الشارع الواحد بين بلدين وتدخل الجدران لتفصل الأب عن أبنائه والأم عن عائلتها... نعترف بكل ذلك لكننا في المقابل لا نفهم لماذا إلحاح البعض على الإمساك فقط بهذه السردية ورفض أي خبر هنا أو صورة هناك لمقاتل مقاوم يقف وحيدا كما السنوار في وجه كتيبة من جنودهم الجبناء، أو يختبئ تحت شجرة زيتون أو بين حجارة لما تبقى من بيت هناك، يقف هو يقاومهم جميعا بما استطاع بعصا هنا أو حجر هناك بعد أن تنفد الذخيرة من مسدسه أو بندقيته، بل بيده المصابة ورجله المبتورة أو فقط بنظرته التي تقول لهم «إننا لمنتصرون رغم طول الألم والزمن وبحار الدم»، فلا يستطيعون وهم المدجون بأسلحتهم الحديثة سوى أن يبعدوا أنظارهم خوفا، بل رعبا من نظرة المقاوم في سبيل الحق، فيبقون هم المقاومون الصامدون المؤمنون بحقهم وحق شعوبهم ويموت كل أولئك الذين لن يتذكر أحد أسماءهم أو وجوههم في حين وجهه هو يشع فوق أسطح المباني وفي واجهة المنازل وعلى صفحات النشرات والكتب، بل يتحول تدريجيا كما جيفارا الى أسطورة بعد أن قتلوه في حين هم لا صورة لهم في الذاكرة ولا في الأزقة المعتمة.

لا إجابات والحروب تحرق الأرض بل تأتي وستأتي الإجابات تباعاً لو صبرنا ووفرنا نشر الصور المحبطة وقاومنا نحن بقدر ما نستطيع من مقاومة، وهو ألا نسمح للصهيوني أن يشتت انتباهنا ووحدة صفوفنا وإيماننا بأن الحق منتصر مهما طالت ساعات الظلمات أو ما يبدو أنه كذلك.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.