نظم مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، الذي يعقد في الرياض، حلقة نقاشية استضافت نائبة الرئيس التنفيذي لمجموعة بنك الكويت الوطني، شيخة البحر، تناولت التحولات المتسارعة للمشهد المالي والدور المحوري، الذي تضطلع به البنوك التقليدية، وتأثير الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية، في تشكيل مستقبل القطاع المصرفي.

وضمت الحلقة التي جاءت تحت عنوان: «هل تستطيع البنوك التقليدية مواكبة الثورة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي وشركات التكنولوجيا المالية؟» شخصيات بارزة من قطاعات الخدمات المالية والتكنولوجيا حول العالم، تم خلالها استعراض التحديات والفرص الناجمة عن صعود الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية، ومساعي البنوك التقليدية للتعايش - أو التفوق على المنافسة - في هذه البيئة الرقمية المتسارعة.

Ad

ووسط ما أحدثته التكنولوجيا المالية من تطورات قلبت موازين القطاع، قدمت البحر رؤى فريدة حول كيفية مواكبة بنك الكويت الوطني لهذه الابتكارات، وقيادته للجهود الرامية إلى تشكيل مستقبل القطاع المالي.

إعادة تعريف المشهد المصرفي

افتتحت البحر الحلقة النقاشية بإيضاح أنه على الرغم من وصف التكنولوجيا المالية (FinTech) بأنها «ثورة» اجتاحت القطاع المصرفي، فإن البيانات المتاحة تكشف صورة أكثر دقة. وأكدت أنه «على الرغم من استثمار مليارات الدولارات، لا توجد شركة تكنولوجيا مالية واحدة مصنفة ضمن أفضل 250 بنكاً عالمياً. فواقع الأمر أن التكنولوجيا المالية ليست ثورة تهدف إلى استبدال الخدمات المصرفية التقليدية، بل تعتبر من التحديات التي تحفّز التطور».

وأشارت البحر إلى أنه خلافاً للاعتقاد الشائع، أثبت نموذج أعمال القطاع المصرفي مرونته بصورة ملحوظة، حيث صمد أمام الاضطرابات المتعددة على مدى العقد الماضي، مبينة أن البنوك التقليدية، بما في ذلك بنك الكويت الوطني، تعمل على دمج التقنيات المستحدثة ضمن عملياتها لتعزيز الوظائف المصرفية الأساسية بدلاً من استبدالها.

وأضافت: «أن التقدم الذي شهدناه خلال العصر الرقمي لا يعني أن التكنولوجيا المالية تعتبر بديلاً عن البنوك التقليدية، بل يتعلق الأمر بدمج الابتكارات الرقمية ضمن نموذج أعمال أكثر شمولاً. ونرى في النموذج الذي يتبعه بنك الكويت الوطني ما للتحول الرقمي من إمكانيات، الأمر الذي يتيح لنا وضع أسس متينة وقواعد راسخة للخدمات المصرفية التقليدية مع الاستفادة من أحدث الابتكارات التكنولوجية لتعزيز تجارب العملاء».

الخيار ما بين التحالف والصراع التنافسي: دور البنوك وشركات التكنولوجيا المالية في رسم ملامح النظام المالي الجديد

وناقشت الحلقة ما إذا كانت البنوك التقليدية وشركات التكنولوجيا المالية ستتجه نحو التنافس أو التعاون، حيث أوضحت البحر أن مستقبل الخدمات المصرفية لن يعتمد فقط على المنافسة، بل على الشراكات الفعالة والتعاون المثمر.

وأفادت بأنه «رغم امتداد جذور التنافس بين البنوك وشركات التكنولوجيا المالية على استقطاب العملاء، فإننا الآن في مرحلة تعاونية جديدة. فالبنوك التقليدية تمتلك القوة المالية، بينما تتميز شركات التكنولوجيا المالية بالمرونة والابتكار. والتحدي الذي يطرحه هذا الوضع يتمثل في تحقيق التوازن بين هذه المزايا، حيث لا يتعلق الأمر بتفوق أحدهما على الآخر بقدر ما يتعلق بالاستفادة من نقاط القوة لدى كل جانب».

وأشارت إلى تجربة بنك الكويت الوطني كمثال على هذا النهج، وإلى النجاح الكبير الذي حققه «وياي»، أول بنك رقمي في الكويت، من حيث نسبة الإقبال التي تخطت المستهدف 4 مرات، في ظل تركيزه في الأساس على استقطاب شريحة الشباب التي تشكل مستقبل الخدمات الرقمية.

وقالت البحر: «في البنك الوطني، ندير عملياتنا التقليدية إلى جانب وياي، الذي يعتبر بنكاً رقمياً بالكامل. وتكمل كلتا العمليتين بعضهما البعض وتقدمان تجربة فريدة تركز على العميل، وهذا هو التحول الحقيقي الذي يشهده القطاع المصرفي».

وأكدت أنه يجب أن يكون هناك تركيز على زيادة الثقافة المالية لجيل الشباب وأن تكون هذه العملة مستمرة لأنها تصنع الفارق، كما شددت على ضرورة التركيز على الاستثمار في الأمن السيبراني، لاسيما وسط التحديات والتطورات المتسارعة في هذا المجال على مستوى العالم.

إدارة الذكاء الاصطناعي في إطار المنظومة المصرفية

ومع الانتقال إلى دور الذكاء الاصطناعي، بدأت النقاشات خلال الحلقة في استعراض الإمكانيات والمخاطر المرتبطة بتطبيقه في القطاع المالي، في ضوء استثمار البنوك مليارات الدولارات في أنظمة تعمل بالذكاء الاصطناعي للكشف عن الاحتيال وإدارة المخاطر، في وقت ما زالت بعض المخاوف المتعلقة بظهور نقاط ضعف جديدة قد تنشأ عن استخدام الذكاء الاصطناعي وما لذلك من تأثيرات سلبية على النظام المصرفي.

وذكرت البحر أن «الذكاء الاصطناعي يعتبر من العوامل التمكينية المهمة، إذ يمكّن البنوك من تحليل كميات ضخمة من البيانات، واكتشاف الأنماط، ومحاكاة السيناريوهات»، لكنها حذرت من أنه «على الرغم من تعزيز الذكاء الاصطناعي لقدراتنا، لكن ينبغي ألا نتوقف عند هذا الحد، إذ يبقى الإشراف البشري أمراً بالغ الأهمية، فالتكنولوجيا تقدم لنا التوصيات، إلا أن اتخاذ القرارات يجب أن يبقى أولاً وأخيراً في أيدي البشر».

كما أكدت أهمية الشفافية والمساءلة في أنظمة الذكاء الاصطناعي، مشددة على أنه في حين يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم رؤى قوية، يجب على البنوك التأكد من أن هذه الرؤى تستند إلى بيانات موثوقة يمكن التحقق منها. وحذرت من الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، قائلة: «لا يمكننا السماح للذكاء الاصطناعي بأن يكون صانع القرار الوحيد. من الضروري أن يكون هناك قائد خلف عجلة القيادة لمراقبة العمليات، ومراجعة النتائج، والتدخل عند الضرورة».

الخدمات المصرفية في خضم المشهد المتغير

ووسط تركيز النقاشات حول التكنولوجيا المالية على التطبيقات الموجهة للعملاء، قالت البحر، إن الإمكانات الحقيقية للذكاء الاصطناعي تكمن في عمليات المكاتب الخلفية، والامتثال للقواعد التنظيمية وتوزيع رأس المال على الاستثمارات المختلفة.

وتابعت: «قمنا في بنك الكويت الوطني بأتمتة أكثر من 100 عملية باستخدام أتمتة العمليات الروبوتية (RPA)، وكانت النتائج مبهرة، إذ لا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي على تعزيز كفاءة العمليات المصرفية فحسب، بل يعيد تعريفها، ما يتيح لنا أن نكون أكثر استجابة وديناميكية».

وأشارت إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُحدث ثورة في إدارة المخاطر من خلال التعلم المستمر من النقاط التي تُظهرها البيانات الجديدة وتعديل ملفات تعريف المخاطر في الوقت الفعلي، معتبرة أن هذا هو المجال الذي سيكون فيه التأثير الأكبر للذكاء الاصطناعي في الخدمات المصرفية، حيث يمكن تحسين المهام القائمة على القواعد والبيانات لتحقيق دقة وسرعة أكبر.

التوازن بين الدور الرقابي والابتكار

وخلال مناقشة الجلسة للعلاقة المعقدة بين الابتكار والرقابة وسط التطور السريع الذي يشهده القطاع، وجهود الحكومات لمواكبة التقدم التكنولوجي، أشادت البحر بالدور الحيوي الذي تلعبه الجهات الرقابية لحماية النظام المالي مع مواصلة دعم الابتكار.

وتابعت: «سارعت الجهات الرقابية إلى إدراك أهمية التقنيات الرقمية ودورها الفعال في الخدمات المصرفية، وقام العديد منها بإطلاق بيئة رقابية تجريبية، أو ما يعرف بـ(Sandbox) للمساعدة في اختبار الحلول الرقمية الجديدة، إلا أننا نرى أن الدور الرئيسي للجهات الرقابية يجب أن يكون في التركيز على حماية النظام المالي وخضوع الخدمات المصرفية لرقابة مشددة لسبب وجيه يتمثل في أهمية دورها في الاقتصاد العالمي، إذ إن أي اضطرابات تصيبها يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة».

التمويل المدمج: هل ستفقد العلامات التجارية للبنوك أهميتها؟

وتناولت الحلقة النقاشية أيضاً ظاهرة التمويل المدمج، باعتبارها من الموضوعات المثيرة للاهتمام، إذ يتم من خلالها دمج الخدمات المصرفية ضمن المنصات غير المصرفية. ومع تزايد الشركات التي تقدم خدمات مالية عبر النظم الرقمية، يتوقع البعض أن «العلامات التجارية» للبنوك قد ينظر إليها باعتبارها أنظمة قد عفا عليها الزمن، إلا أن البحر أكدت أن الدور الحيوي الذي تقوم به البنوك التقليدية لا غنى عنه.

وقالت: «يعمل هذا النموذج الجديد بشكل جيد في نطاقات أصغر مثل المحافظ الإلكترونية والتحويلات، لكن البنوك ستظل العمود الفقري للنظام المالي، فالتمويل المدمج مجرد مثال آخر على كيفية تطور القطاع المصرفي لتلبية متطلبات العملاء المتغيرة. وسيتعين على البنوك مواصلة التكيف من خلال تطوير تقنياتها الخاصة أو الدخول في شراكات مع شركات التكنولوجيا المالية لتقديم هذه الخدمات».

وأشارت إلى أن بعض البنوك الرقمية لجأت مرة أخرى لاستخدام النماذج التقليدية من خلال فتح فروع غير متصلة بالإنترنت وتقديم خدمة عملاء تعتمد على التفاعل البشري لتعزيز النمو، ما يدل على أنه حتى قادة التكنولوجيا المالية يدركون قيمة الخدمات المصرفية التقليدية.

ريادة التغيير: استراتيجية شاملة للابتكار

وأخيراً، استعرضت الجلسة التحديات الرئيسية التي تواجهها البنوك التقليدية، حيث أكدت البحر أنه لضمان قدرة البنوك على المنافسة في عصر التحولات التكنولوجية السريعة، يجب أن يتجاوز تركيزها مجرد الاستثمار في التكنولوجيا إلى إعادة تشكيل ثقافتها التنظيمية بالكامل.

وبينت أنه يتعين على قادة القطاع تعزيز ثقافة الابتكار لتتغلغل في جميع جوانب المؤسسة، لافتة إلى أن الأمر لا يقتصر فقط على اعتماد التقنيات الرقمية، بل يشمل أيضاً مواءمة كل عمليات اتخاذ القرار مع التحلي بالعقلية الرقمية، بدءاً بتعيين الموظفين الجدد وصولاً إلى التخطيط الاستراتيجي على المستوى التنفيذي.

وشددت على ريادة بنك الكويت الوطني في مجال التحول الرقمي، مؤكدة فخرها واعتزازها بإنجازات البنك على هذا الصعيد.

وأضافت البحر: «مسيرتنا نحو دمج التقنيات الرقمية مع الحفاظ على استقرار الخدمات المصرفية التقليدية وتعزيز الثقة بها تعكس التزامنا الدائم بتقديم أفضل الخدمات لعملائنا».

وبالنظر إلى التوجهات المستقبلية، اختتمت حديثها بتوقعات طموحة للعام 2030 قائلة: «الرؤساء التنفيذيون الذين سيتمكنون من تحقيق التوازن المناسب بين الخدمات المصرفية التقليدية ومرونة التكنولوجيا المالية هم من سيحددون مستقبل هذا القطاع. وسيعتمد النجاح على القدرة على التكيف والابتكار والنمو، مع الحفاظ على القيم الأساسية التي جعلت من الخدمات المصرفية التقليدية ركيزة للاقتصاد العالمي».