مع ارتفاع وتيرة الحديث حول تعديل قانون المرافعات المدنية والتجارية وتحديدا فيما يخص قضية رفع النصاب القيمي للقضايا المدنية والتجارية أمام المحاكم، باتت مسألة عرض النزاعات على المحاكم العليا أمراً مغايراً لما هي عليه الآن، وذلك بعد أن يتم رفع النصاب القيمي للدعاوى لتصبح بقيمة 20 ألف دينار بدلاً من 5 آلاف، كما هو معمول به في النص الحالي.

ولمثل هذا التعديل عدة نتائج يتعين الوقوف عليها، وهي على النحو التالي:

Ad

أولاً: ستكون الأحكام الصادرة من المحكمة الجزائية بقيمة 20 ألف دينار أحكاماً «انتهائية»، وإذا ما قبلت الطعن عليها فستكون أمام محكمة الاستنئاف الجزئي.

ثانيا: لن يتم عرض النزاعات أمام المحاكم العليا بمحكمة الاستئناف والتمييز، إلا الطلبات التي تزيد قيمتها على 20 ألف دينار.

ثالثا: سيترتب على التعديل التشريعي بشأن رفع النصاب القيمي زيادة النظر والفصل في الدعاوى القضائية امام المحكمة الكلية بعد خفض عدد الدعاوى التي كانت معهودة للفصل بها من قبل محكمة الاستئناف العليا.

رابعا: سوف تفقد المنازعات التجارية والمدنية التي تكون في حدود 20 ألف دينار وجود محكمة عليا تضع مبادئ بشأنها وترجح النزاعات وتحسمها حال وقوع الأحكام بأخطاء تنال من سلامتها.

جملة ملاحظات

وإزاء تلك النتائج التي قد ترتبها قضية رفع النصاب القيمي للدعاوى من خمسة آلاف دينار، كما هو عليه الحال حالياً، إلى مبلغ 20 ألف دينار فإن هناك جملة من الملاحظات تثيرها تلك النتائج ويتعين الوقوف عليها وهي على النحو التالي:

الأمر الأول، أن عرض النزاعات والدعاوى القضائية التي ستكون في حدود 20 ألف دينار سيتسبب في الضغط على منظومة العمل في المحكمة الكلية، سواء المنظومة الإدارية من الكوادر البشرية العاملة لخدمة الدعاوى القضائية أو المنظومة القضائية، والمشكّلة من السادة القضاة في المحكمة الكلية.

ومثل هاتين المنظومتين الإدارية والقضائية لا يمكن لهما تحمل الأعباء الكبيرة التي سوف تحدثها نتائج رفع النصاب القيمي، وإذا ما قلنا بأن المنظومة الإدارية بالإمكان رفع أعداد منتسبيها وهو أمر يحتاج إلى تدريب وتأهيل، وقد يصعب تحقيقه إدارياً، إلا أنه أمر من الصعب تحقيقه، ومختلف تجاه المنظومة القضائية، التي لا يمكن لها أن تستوعب حجم العمل، طالما كان خارج قدرتها الفنية.

يضاف إلى ذلك أن عمر انضمام السادة القضاة القادمين من النيابة العامة بالأساس بالكاد يكون كافيا من الناحية الفنية لتولي مهام الاشتراك في الفصل بالدعاوى القضائية، إذ الأغلب يتم نقله إلى القضاء، بعد اجتيازه في العمل بالنيابة العامة مدة لا تزيد على خمس سنوات.

الأمر الثاني أن رفع النصاب القيمي، في ظل قلة أعداد القضاة من درجة وكلاء محكمة ومستشارين في المحكمة الكلية لرئاسة الجلسات والاعتماد على القضاة حديثي الانضمام إلى القضاء سوف يؤثر على جودة الأحكام القضائية، وفي عدم كفاية الأحكام في الرد على الدفوع والطلبات الجوهرية، نظراً لحجم وضغوط العمل الذي ستواجهه الدوائر في المحكمة الكلية، لاسيما دوائر الاستئناف الجزئية المشكلة من ثلاثة قضاة، والتي ستصدر أحكامها بصفة كاملة، في حين أن دوائر المحكمة الجزئية ستكون مشكلة من قاضٍ واحد فقط، وهو ما سيجعل أمر انتهائية الأحكام مسألة وشيكة قد تضر بحقوق المتقاضين بفعل هذا التعديل.

بينما الأمر الثالث الذي سيرتبه التعديل هو عدم عرض النزاعات على المحاكم العليا لمحكمة الاستئناف والتمييز، رغم أنها مطالبات مالية عالية تقدر بعشرين ألف دينار، والتي قد تكون أكبر مبلغ يملكه المتقاضي، وقد لا يقوى عليه متقاض آخر، فكيف يعرض نزاعه على محكمة جزئية وقد يكون حكمها معرضا للبطلان، ولا يمكن عرضه على المحاكم العليا للتعقيب عليه أو تصحيحه، وأن الواقع العملي اليوم كشف عن صدور المئات من أحكام محكمة التمييز سنوياً، وهي أعلى درجات الطعن، تنتهي فيها إلى إلغاء أحكام محاكم الاستئناف العليا، لما شاب تلك الأحكام من عيوب وخطأ في القانون، فكيف الأمر والقضاء العالي يحرم من مراقبة المطالبات التي تكون بهذه القيمة، ولا يكون له دور في تصحيح الخطأ الذي قد يعتري الأحكام الصادرة بشأنها، كما أن ذلك يحرم قضاء التمييز أو العالي وضع مبادئ وقواعد على تلك النزاعات وحسمها، ما يجعلها من قبيل الدعاوى التقلدية والنمطية رغم جسامة المبالغ المقررة فيها.

باب التلاعب

كما سوف يفتح هذا التعديل باب التلاعب في إضافة طلبات في الدعاوى غير المجدية، ومنها طلبات ندب الخبير للهروب من قضية النصاب القيمي والتي قد تكون عبئا على المتقاضين وعلى منظومة العمل القضائي في الإداري في المحكمة الكلية.

يضاف إلى ذلك أن قضية رفع النصاب القيمي وإن كانت ستعمل على خفض باب الطعون أمام محكمتي الاستئناف والتمييز، إلا أنها ستعمل على إحداث العديد من العوامل السلبية التي سبق الإشارة إليها، وسوف تؤثر على حق التقاضي وجودة الأحكام، لذلك فلا يحقق هل قضية تراكم الطعون في محكمة التمييز على سبيل المثال من شأنها استحداث مشكلة ضعف جودة الأحكام والضغط على منظومة العمل في قضاء المحكمة الكلية برفع النصاب القيمي.

450 قاضياً

لا يغيب عن الأذهان أن رفع النصاب القيمي يسبقه رفع أعداد القضاة والمستشارين في المحكمة الكلية، إذ لا يمكن كما سبق الإشارة سابقا، لـ 450 قاضيا في المحكمة الكلية أن يفصلوا فيما يزيد على مليون ونصف المليون دعوى قضائية، والتي يرجح أن تزيد هذا العام، وإعداد الدعاوى بسبب اسناد قضايا الإيجارات لقضاة المحكمة الكلية عبر دعاوى الاستئناف الجزئي، بعد إلغاء الاختصاص بنظرها من محكمة الاستئناف العالي، ولذلك فإن ترتيب أوضاع التقاضي والنصاب، يجب أن ينظر إليه وفق قواعد شمولية أخرى تتعلق بجاهزية المحاكم والهيئات القضائية وأثر ذلك التحول القضائي على جودة الأحكام.

إدارة الجلسات

في ظل عدم وجود العدد الكافي من القضاة بدرجة وكلاء محكمة أو بدرجة مستشارين في المحكمة الكلية أصلاً يتولون رئاسة الجلسات، فضلاً عن أنه لا يمكن الاعتماد على المنضمين حديثاً إلى القضاء بعد انتهاء عملهم في النيابة العامة، وذلك لأنهم في طور التأهيل الفني والمهني للعمل القضائي، ومثل هذا التأهيل يسمح بإدارتهم للجلسات بعد مدة لا تقل عن ثلاث سنوات من العمل القضائي، فإن زيادة أعداد القضاة عن طريق النيابة العامة إلى المحكمة الكلية لن يحل المشكلة لأنهم قضاة تؤهلهم للمشاركة في إصدار الأحكام وليس في إدارة الجلسات المشكلة قضائياً، بعد انضمامهم للعمل القضائي.

هذا هو الحل

يتمثل الحل في رفع النصاب القيمي بطريقة جدية التقاضي، ولا تكون قيداً على حق التقاضي، ومثل تلك الجدية هو رفع يسير للنصاب القيمي، الذي يقدر حالياً بقيمة خمسة آلاف دينار، فلا يمنع من رفعه إلى حدود 7500 دينار أو حتى في حدود 10 آلاف دينار مراعاة للقيمة المالية، التي رفع بها قيمة النصاب القيمي للدعاوى القضائية قبل نحو 40 عاماً، لكن لا يمكن أن تكون بثلاثة أضعاف المبلغ المقرر حالياً.