المختلف في هذا الاقتراع عن الانتخابات السابقة التي جرت قبل 5 سنوات، هو استخدام نظام الانتخاب المختلط للمرة الأولى، حسب تعديلات تم إقرارها العام الماضي تهدف إلى خلق ديناميكيات سياسية جديدة، وتعزيز دور المجلس التشريعي والمنافسة بين الأحزاب الخمسة المسجلة، وتعزيز التمثيل المناطقي والجغرافي.
كذلك جرى اعتماد اصلاحات أخرى، بينها زيادة كوتة المرأة بين مرشحي الأحزاب من 30 في المئة إلى 40 في المئة، واستخدام التصويت الإلكتروني في بعض الدوائر في العاصمة طشقند على سبيل التجربة.
وبحسب التعديلات الجديدة، اقترع الناخبون الذين يصل عددهم إلى 20 مليوناً لاختيار 150 نائباً، نصفهم (75 نائباً) بنظام الأغلبية (دائرة فردية لمرشح واحد)، ونصفهم الآخر من خلال النظام النسبي على أساس القوائم الحزبية.
وأعلنت اللجنة المركزية للانتخابات، خلال مؤتمر صحافي عقدته بمقرها في طشقند، أن إجمالي عدد المرشحين للانتخابات بلغ 875 مرشحاً.
وبحسب اللجنة، فإن 851 مراقباً دولياً شاركوا في مراقبة الاقتراع، بما في ذلك 13 منظمة دولية، ضمنها الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
كما شارك 55 ألف مراقب من الأحزاب السياسية المحلية، وأكثر من 10 آلاف مراقب من هيئات الحكم الذاتي للمواطنين، وتم اعتماد ما مجموعه 1068 ممثلاً لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية.
وقد زارت «الجريدة» مركزين للاقتراع في طشقند، وعاينت سير العملية الانتخابية، التي جرت في أجواء أمنية مرتاحة، بحضور ممثلين عن الأحزاب في مراكز الاقتراع.
وسجلت نسبة مشاركة قوية في الاقتراع بلغت 74.72 في المئة، أي حوالي 15 مليون ناخب مسجل.
الليبراليون الأقوى
حسب النتائج النهائية، حصد الحزب الديموقراطي الليبرالي (UzLiDeP) الحصة الأكبر من المقاعد بحصوله على 64 مقعداً، موسّعاً هيمنته على المجلس التشريعي بعد أن كان يملك 53 مقعداً في المجلس الذي تنتهي ولايته في ديسمبر المقبل.
والحزب الديموقراطي الليبرالي هو حزب مرتبط بالرئيس ميرضيائيف، والمفضّل لدى رجال الأعمال والمبادرين والطبقة الوسطى، والداعم الرئيسي للإصلاحات الاقتصادية الواسعة التي ادخلت إلى البلد، والمتمثلة بتحرير الأسواق والانفتاح الاقتصادي وفتح الباب أمام الاستثمارات الخارجية.
وكان حزب البيئة (الخضر)، الذي يدفع بأجندة صديقة للبيئة، ويدعو إلى تنمية مستدامة، هو الحزب الوحيد الذي عزز تمثليه، بحصوله على 16 مقعداً، مقابل 15 في البرلمان القديم، في خطوة قد تعكس اهتمام الناخبين وأغلبيتهم الكبيرة من الشباب، بالقضايا البيئية والتغيير المناخي.
في المقابل، تعرض حزب النهضة الوطني (Milly tiklanish)، الذي يدعو الى تعزيز الهوية الوطنية، ويدفع بأجندة قومية فيها ملامح محافظة، لأكبر انتكاسة، حيث انخفض تمثيله من 36 مقعداً إلى 29 مقعداً.
وقد يكون لهذا تفسير مرتبط برغبة الناخبين في أوزبكستان بالابتعاد عن النظرة المحافظة لمسألة الهوية الوطنية، وأسئلتها المعقدة في بلد يعتبر نفسه مركز القومية التركية وأحد مراكز العلم في الحضارة الإسلامية، وقد بقي لأكثر من 65 عاماً تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي، حيث تعرضت هويته الوطنية والدينية للقمع مقابل الثقافة السوفياتية، وغيّر على سبيل المثال الحرف الذي تكتب فيه لغته من العربية إلى الروسية الى اللاتينية في أقل من 100 عام.
وخسر الحزب الديموقراطي الاجتماعي (Adolat) 3 مقاعد ليفوز بـ 21 مقعداً.
وكان الحزب اليساري الذي لديه ميول قوية مؤيدة للتحالف مع روسيا، دفع بأجندة طموحة تحث على مشاركة المواطنين في الحكم ومعالجة القضايا المرتبطة بالبنية التحتية، وتعزيز الإصلاحات الديموقرطية، وتحسين الحكومة والشفافية وسيادة القانون.
من ناحيته، خسر حزب الشعب الديموقراطي الأوزبكي مقعداً واحداً ليحصل على 21 مقعداً.
وركّز الحزب، الذي لديه ارتباطات بالحزب الشيوعي الحاكم خلال الحقبة السوفياتية، في أجندته السياسية، على تعزيز العدالة الاجتماعية، وضمان الحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة مثل المتقاعدين والأسر ذات الدخل المنخفض، وتعزيز فرص العمل خصوصا للشباب والنساء، وأيضاً تعزيز الوعي العام بالعمليات القانونية والسياسية.
رؤية وسطية بملامح عصرية
أمّا لماذا فاز الحزب الديموقراطي الليبرالي بأكبر عدد من الأصوات رغم أن الإصلاحات صممت لتعزيز التعددية الحزبية؟ فلذلك أسباب عدة، أبرزها، حسب مراقبين استطلعتهم «الجريدة» أن الحزب يمثل ببرنامجه السياسي والانتخابي رؤية وسطية بملامح عصرية لجميع القضايا التي تتبناها الأحزاب الاخرى.
فالحزب الذي نشأ كاستجابة لتطورات المشهد السياسي والاقتصادي بعد الاستقلال في 1991، يدعو إلى إصلاح اقتصادي يعزز رفاهية المواطنين مع تحسين الوصول الى الرعاية الصحية والتعليم والالتزام بخلق بيئة اقتصادية أكثر عدلاً، كما أنه يدعو إلى استقلالية القضاء، ما يتماشى مع المطالب بزيادة الشفافية، وهو مؤيد لتعزيز المشاركة السياسية والانخراط المباشر للمواطنين في العملية السياسية، فضلا عن ذلك تحتل القضية البيئة مكاناً مرموقاً في برنامجه الانتخابي.
وفي مسألة الهوية الوطنية، يتبنى الحزب الديموقراطي الليبرالي موقفاً دقيقاً، ويقر بأهمية الحفاظ على الهوية الوطنية والتراث الثقافي خصوصاً في سياق العولمة والتأثير المتزايد للثقافات الأجنبية، لكنه يدعو إلى إيجاد توازن بين تبني الحداثة والحفاظ على خصائص الهوية الأوزبكية.
وفيما طرح حزب النهضة الوطنية نفسه انه الوصي على الثقافة الأوزبكية، سعى الحزب الديموقراطي الليبرالي إلى إيجاد صدى لدى الناخبين الذي يبحثون عن نهج حديث ولكنه متجذر ثقافياً.
الإبحار في أجواء جيوسياسية مضطربة
من جهة أخرى، ليست العوامل الداخلية وحدها لعبت دوراً في تحديد مسار الانتخابات، إذ تلعب أوزبكستان دوراً رئيسياً في آسيا الوسطى، نظراً لموقعها الاستراتيجي وثقلها السكاني وإمكاناتها الاقتصادية ودبلوماسيتها النشطة في المنطقة، ومن الطبيعي أن تكون أكثر وعياً، وبالتالي تأثراً بالتحديات الجيوسياسية.
وتعتبر روسيا القوة الكبرى المهيمنة تقليدياً في آسيا الوسطى حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن ذلك بدأ يتغير بشكل تدريجي وملحوظ منذ أن بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتبنى خطاً قومياً متشدداً، ويتحدث بشكل منفتح عن تطلعات امبراطورية روسية، وهو ما أيقظ الذكريات السوداء لدى الدول التي كانت جزءاً من تلك الإمبراطورية الروسية القديمة أو من الاتحاد السوفياتي.
وكانت الحرب الروسية على أوكرانيا علامة فارقة في تعزيز تلك المخاوف.
في المقابل، فرض نهوض الصين نفسه على دول وسط آسيا المجاورة خصوصاً بعد إطلاق الرئيس شي جينبينغ مبادرة الحزام والطريق في 2013 التي تعتبر دول المنطقة خصوصا أوزبكستان ممراً أساسياً وإجبارياً لها، وهو ما عزز العلاقات الاقتصادية والتعاون السياسي بين بكين ودول المنطقة.
وأظهرت المساعدة المالية الشاملة التي تبلغ حوالي 3.8 مليارات دولار أميركي والتي أقرتها قمة الصين - آسيا الوسطى في مايو 2023 نفوذ الصين المتزايد، وملء الفراغ الذي خلفه انخراط روسيا في الصراع في أوكرانيا.
أما الولايات المتحدة، فقد تباين وجودها واهتمامها في منطقة آسيا الوسطى خصوصا بعد الانسحاب من أفغانستان في 2021. وعكست قمة الرئيس الأميركي جو بايدن مع رؤساء الدول الخمس في آسيا الوسطى في 2023 وهي الأولى على مستوى رئاسي في إطار مجموعة 5+1 التي تأسست في عام 2015، تزايد الاهتمام الأميركي في دول المنطقة التي استضافت قواعد أميركية لفترات وجيزة خلال الحرب في أفغانستان.
اللاعب الآخر في المنطقة هو الهند التي تعتمد دبلوماسية نشطة تحت عنوان «دبلوماسية الجوار الموسع» للتفاعل مع دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط ودول إفريقية، تقع في الجوار الهندي «البعيد».
ويعتمد الرئيس ميرضيائيف وحكومته مفهوم «الدبلوماسية الاقتصادية» الذي يشكل جوهر السياسة الخارجية لأوزبكستان ويحدد علاقتها مع الدول الأخرى على أساس المنفعة المتبادلة مع الابتعاد عن سياسة المحاور والاستقطاب.
وإن كان هذا المفهوم يدعو لانفتاح على الجميع «سواسية» ودون «فيتو» على أي دولة، الا أن عراقيل مثل تضارب المصالح والعقوبات الغربية على روسيا أو وجود ممرات تجارية متنافسة، تجعله محدوداً أو بشكل أدق تدل على حاجته الى إرساء توازنات دقيقة لا تستفز أي أحد لكن لا تضحي بمصالح أوزبكستان.
وقد أظهرت طشقند في السنوات الأخيرة قدرتها على الإبحار بسلام في أجواء جيوسياسية مضطربة مراهنة على الانفتاح والاندماج الإقليمي مع انخراط في الدبلوماسية الدولية المتعددة الأطراف.
كيف أثر كل ذلك على المشهد الانتخابي؟ إذا وضعنا جانباً حزب الخضر الذي يركّز على قضايا البيئة، فإن الحزب الليبرالي الديموقراطي هو الأكثر انفتاحاً على التخفف من أعباء الاعتمادية على روسيا، والأكثر قبولاً للتعامل مع الصين على قاعدة المنفعة المتبادلة، ورغم بعض التحفظ، هو الأكثر مرونة تجاه الدور الأميركي وأيضاً الأوروبي مقابل حساسيات مفرطة ضد الغرب لدى الأحزاب الأخرى نتيجة ترسبات من الماضي، كما قاد الليبراليون البلاد إلى شراكة مهمة وفعّالة مع الهند.
من جانب آخر، كان للحروب الجديدة في الشرق الأوسط مثل في غزة ولبنان، والحروب القديمة مثل السودان وسورية، الى جانب الحرب الأوكرانية، انعكاس على مزاج الناخب الأوزبكي الذي كان قراره التصويت للاستقرار والتنمية الاقتصادية.
العلاقة مع الخليج
تولي أوزبكستان أهمية كبيرة لعلاقتها مع دول الخليج العربية وبينها الكويت التي زارها وزير الخارجية بختيار سعيدوف في أغسطس الماضي، وشارك في أعمال «منتدى الأعمال الأوزبكي - الكويتي» الذي سلط الضوء على تزايد الاهتمام المشترك بتعزيز العلاقات التجارية والاقنتصادية والتعاون الدولي بين البلدين.
وفي الأعوام الماضية، شهدت العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وأوزبكستان محطات مهة بينها، قمة مجلس التعاون وآسيا الوسطى في جدة في يوليو 2023، والاجتماع الوزاري الثاني المشترك للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون ودول آسيا الوسطى في طشقند بأبريل الماضي.
وركزت الحوارات بين الجانبين على التعاون في مجال الطاقة والبنية الاساسية للنقل، حيث تسعى دول الخليج الى بناء شبكات لوجستية أقوى مع آسيا الوسطى، وتعزيز طرق الطاقة والتجارة وترسيخ دورها في الربط الأوروآسيوي.
التطلع إلى المستقبل
الانتخابات التشريعية التي جرت في أوزبكستان كانت محطة أخرى على طريق الإصلاح، وبالنسبة للكثير من دول منطقة الشرق الأوسط قد يشكل نموذج أوزبكستان، الذي يظهر فعالية في ضمان الاستقرار والتنمية بشكل متواز، نموذجاً يمكن دراسته واستخلاص العبر منه.
لقد كان الانتقاد الأبرز للانتخابات ان الأحزاب الخمسة المسجلة ليست أحزاباً معارضة. وتقول الحكومة إنها لم تمنع أي حزب من التسجيل طالما أنه يلبي الشروط المطلوبة.
لكن أبعد من ذلك، لابد من الإشارة الى أن الإصلاح السياسي التدريجي والمتوازن يبدو الطريق الأسلم أمام مجتمع يسعى لاستعادة وإعادة صياغة هويته الوطنية مع الانفتاح على العالم وتبني قيم الحداثة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الاستقرار في عالم متقلب يشهد عودة مؤسفة لصراع القوى الكبرى.
لا تبدو كل الإجابات سهلة، على مواضيع مثل التدين والحريات والهوية والعولمة وغيرها، إنما تبقى العبرة في ان المجتمع الأوزبكي قرر وضع نفسه على سكة الإجابة عن هذه الأسئلة وليس تجاهلها.
معالم في طشقند من «أمير تيمور» إلى «مصحف عثمان»
على هامش تغطية الانتخابات، زارت «الجريدة» مركز الحضارة الإسلامية في طشقند، وهو مشروع ضخم اقيم على مساحة تتجاوز سبعة هكتارات، من المقرر أن يتم افتتاح مقره الجديد رسميا منتصف العام المقبل.
وتم إنشاء المركز، بمبادرة من رئيس جمهورية أوزبكستان شوكت ميرضيائف، ليجمع كل ما له علاقة بالتراث والحضارة الإسلامية، من مواد معرفية ومخطوطات وتحف نادرة من حول العالم، ويحتضن المؤتمرات والندوات والمحاضرات، التي تبرز إسهامات العالم الإسلامي في بناء الحضارة الإنسانية.
والمبنى تعلوه القباب الفيروزية المزخرفة بأنواع القاشاني الجميل المزين برسومات نباتية وأخرى هندسية رائعة. ويقول الاوزبكيون إن اللون الفيرزوي هو أثر من حضارتهم القديمة عندما كانوا ينظرون الى السماء للعبادة ومراقبة النجوم. وبحسب البعض فإن اسم Turquoise بالإنكليزية والفرنسية وبعض اللغات اللاتينية الاخرى هو من جذر «ترك» حيث تميزت الحضارة التركية بهذا اللون. وأقيمت للمبنى اربع بوابات عملاقة مزخرفة بالنقوش والكتابات الإسلامية. ومن المقرر عند اكتمال المبنى نقل «مصحف عثمان» الذي يقول الاوزبكيون إنه المصحف الشريف الذي كان يقرأ فيه ثالث الخلفاء الراشدين عند اغتياله، مستدلين على ذلك بوجود دماء على إحدى الصفحات. ويقول الاوزبكيون إن «أمير تيمور» (تيمورلنك) الذي يعتبرونه باني الحضارة التركية الثانية جلبه معه من تركيا. وليس هناك رواية واحدة لكيفية وصول المصحف الى اوزبكستان الا أن علماء المخطوطات لا يعتقدون انه نسخة اصلية خصوصا انه مكتوب بالخط الكوفي المتقدم على مرحلة الخليفة عثمان. والمصحف معروض في مسجد صغير ضمن حرم مسجد حضرة الإمام، وهو بناء كبير يضم مساجد تاريخية ومدرسة تحولت الآن الى متاجر لبيع التذكارات السياحية.
ومن بين الأماكن الأخرى، التي زارتها «الجريدة» متحف «أمير تيمور» الذي يحكي قصة تيمورلنك والعلماء الذين ظهروا في عهده، وسوق تشارسو الشعبي، حيث يمكنك العثور على اجود انواع المكسرات والفواكه المجففة.