نعتقد أن العمر الحقيقي لتجربتنا الديموقراطية لم يتعدَّ بضع سنوات إذا استثنينا عقوداً من الانتهاكات الدستورية والقانونية للسلطتين التنفيذية والتشريعية، فالديموقراطية برأينا بدأت اليوم الثالث من نوفمبر من عام 1962، عندما قام المجلس التأسيسي الكويتي بإنجاز مشروع الدستور وتقديمه لسمو الأمير، ثم انتهت عند أول تزوير للانتخابات في 25 يناير 1967، أي أن عمرها الفعلي أربع سنوات وشهران، وما جاء بعد ذلك لا يحتسب!
فقبل عملية التزوير كانت هناك ديموقراطية رغم خلاف الحكومة والنواب في أول مجلس، ذلك الذي استقال منه ثمانية أعضاء بسبب سيطرتها على قرارات البرلمان وتقييد الحريات وإصدار قوانين مخالفة للدستور، مما أدى أيضاً إلى استقالة عبدالعزيز الصقر كرئيس لأول مجلس، ولكن ما إن تم التزوير كجريمة سياسية في ثاني انتخابات، استقال على أثره ستة من الفائزين فيها، هم عبدالعزيز الصقر ومعه عبدالمحسن الخرافي وعبدالرزاق الخالد ومحمد العدساني وراشد الفرحان وعلي العمر، فكان بمنزلة نذير شؤم لما ستقدم عليه الحكومات القادمة، وهو ما تحقق فعلاً لما تلى ذلك من وقف العمل بالدستور في عامي 76 و86، ثم توالت عمليات حل المجلس، غير أن آخر حل غير دستوري كان مختلفاً، ووافق عليه أغلبية الشعب، نظراً لما وصلت إليه الحكومات المتعاقبة والبرلمانات الرديفة لها في الحقبة السابقة من تواطؤ انتهك فيه الدستور والقانون فأضروا بمصالح البلاد والعباد.
إن أكثر أداة تفسد الدساتير هي سلطة المال التي تُشترى بها الذمم، فيصبح المال دستوراً يعبد، سواء من خلال السطو على ميزانية الدولة ومناقصاتها أو عبر تعيينات وترقيات وبعثات غير مستحقة، أو عن طريق تزوير مناصب ومهمات وهمية في الهيكل الوظيفي للوزارات ليستنزف المال العام، وكثير منها موثق بتقارير ديوان المحاسبة، أما أوقح ذمم تم شراؤها فكانت «الإيداعات المليونية»!
قوة المال استخدمتها الدول الاستعمارية والعظمى للسيطرة على العالم الثالث وإفشال دساتيره، فتمنح دوله القروض لتتعثر وتسقط أسيرة لمطالبها، وتشق مجتمعاتها بتمويل صراعاتها الطائفية والعرقية، وأفضل مثال هو ما فعلته أميركا بالتعاون مع إيران، فاستطاعت بقوة المال والسلاح إنشاء ميليشيات إرهابية أججت حرباً مذهبية بالعراق، وأطاحت بدستوره ونسفت ديموقراطيته، وأفشلت نتائج انتخاباته، فعينت المالكي رئيساً رغم نجاح علّاوي، وهو نموذج كررته إيران في اليمن وسورية ولبنان.
وقد يستغرب الكثيرون أن المخدرات هي أيضاً إحدى أدوات الانقلاب على الدساتير، من خلال إفساد الشعوب وغسل أدمغتها وأموالها وشراء ذمم المسؤولين في بلدانهم للسيطرة على الأنظمة، وهو ما حدث فعلاً كجزء من فساد الحقبة السابقة لضخامة ما كان يقدر من حجم غسل الأموال، وحدث أيضاً بنطاق أوسع في دول مجاورة، وأشهرها «الكبتاغون» بمصانع «حزب الله» اللبناني وتهريبه للدول المجاورة. أما أشهر سموم القرن الماضي ما صادف اليوم بدء حرب ترويجه وهو «الأفيون»، أحد أبشع أنواع المخدرات التي أدمنتها الشعوب قديماً، ولك أن تتخيل أن بريطانيا وحلفاءها عام 1839 شنوا حرباً عسكرية بمجازر وحشية على الصين، لإجبارها على استيراده واستهلاكه لجني الأموال من إدمان الصينيين عليه، حتى كادت تقع الإمبراطورية لولا قدوم ماو تسيتونغ.
لذا، فعلينا وعلى الشعوب حماية بلدانها من السقوط مرة أخرى تحت سلطة الدول العظمى التي عادت من الشباك، كما أن عليهم حماية أنفسهم من سلطة المال والسلاح والمخدرات والسلطة الدينية الملوثة بالمذهبية والطائفية والحزبية، فجميعها سلطات خبيثة تهدم الدساتير والدول، كما كانت تهدمها بالسابق سلطة «الأفيون» في العالم الثالث.
***
إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي.