تخرج أصوات غربية حرة وشجاعة في مواجهة الانحياز الإعلامي الغربي وقلة التعاطف الإنساني، تجاه الأحداث التي تقع منذ أكثر من عام ولا تزال في قطاع غزة وما حل به وبسكانه، بالإضافة إلى ما يصيب لبنان منذ أكثر من شهر وما لحق به من دمار وخراب ناهيك عن الأعداد المرتفعة لمن استشهدوا وللنزوح الواسع لمن يحاول أن ينجو بنفسه وعائلته.
سنقتصر في هذا المقال على ذكر اثنين من المفكرين والأكاديميين الفرنسيين الذين تحلوا بالشجاعة والصدق، وتحدثوا وكتبوا بكل حرية وإنسانية تجاه الأحداث التي يعيشها القطاع وسكانه.
سنبدأ بالأكاديمي والمفكر الفرنسي باسكال بونيوفاس، مؤسس ومدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس، والذي مر بعدة مراحل في علاقته بالقضية الفلسطينية، حيث صدر له عام 2003 وفي مرحلة أولى اتسمت بالعداء ضده، كتابا بعنوان: هل من المسموح انتقاد إسرائيل؟ أوضح في فصله الأول بأنه إذا كان بالإمكان نظريا انتقاد إسرائيل فإن ذلك يبقى معقدا وخطيرا من الناحية العملية وبخاصة إذا جاء الانتقاد من خارج هذا البلد، ولكن من داخله يمكن للصحافيين والسياسيين والمنظمات غير الحكومية أن تنتقد سياسته الحكومية وتتعلق الخطورة بالانتقادات التي يمكن أن توجه من الخارج لهذه السياسة وبخاصة من فرنسا، أما الفصول الأخرى للكتاب فهي تحت عناوين: محاكمة الإعلام، والعداء لليهودية: الحقيقة والتراجيدية، ونزاع مستورد، واليمين المتطرف ومعاداة السامية، ومعاداة السامية في فرنسا كما تراها إسرائيل والولايات المتحدة.
ولن أستطرد بالحديث عن هذا الكتاب فقد كتب مقالا مطولا عنه عام 2003 ونُشر في إحدى الصحف الجزائرية، وجاءت مرحلة جديدة، استعاد فيها هذا المفكر اعتباره في الأوساط الأكاديمية والإعلامية وتمت دعوته للكتابة والتعليق على العديد من الأحداث العالمية ومن بينها الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، لكننا وصلنا في الأشهر الأخيرة إلى مرحلة حذر وتوجس من قبل هذه الأوساط بسبب مواقفه الشجاعية والإنسانية من الأحداث في قطاع غزة، وتصريحاته المحقة بأن الإعلام الفرنسي أكثر اهتماما وتصديقا لما تقوله إسرائيل عن الأوضاع في غزة في مقابل التشكيك فيما تقوله المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الإنسانية التي تعمل في هذا القطاع والتي تحاول أن تصور الأوضاع المأساوية لسكانه.
أما المفكر الفرنسي الثاني الذي لفت الانتباه لموقفه الجريء والشجاع فيما يخص ما يحدث في قطاع غزة وما يعانيه الشعب الفلسطيني فهو البروفيسور ديديه فاسان الذي يحاضر في الكولج دي فرانس، وهي مؤسسة علمية فرنسية تأسست عام 1530، ويتم فيها إلقاء محاضرات بالمجان ويمكن أن يحضرها من يشاء، ويقدم هذه المحاضرات نخبة من الأساتذة في مختلف التخصصات حسب كراس متنوعة، ويرأس حاليا البروفيسور فاسان كراس: المواضيع الأخلاقية والقضايا السياسية في المجتمعات المعاصرة، أما الكتاب الذي نحن بصدده لمؤلفه فاسان فصدر في شهر سبتمبر من هذا العام وهو بعنوان: «هزيمة غريبة»، حول الموافقة على سحق غزة، ويتضمن الكتاب بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، ثمانية فصول مرقمة بالأرقام الرومانية وليس لها عناوين.
لن ندخل في تفاصيل هذه الفصول ولكن من الضروري أن نشير إلى ما جاء في المقدمة حيث يشير الكاتب إلى تحليلين بخصوص طوفان الأقصى: الأول يرى فيما جرى هجوما ضد اليهود أعقبه رد عليه من طرف القوات المحتلة، ويعيد التحليل الثاني أسباب ما حدث إلى التاريخ بدءا بوعد بلفور 1917، وصولا لحرب 1967 واحتلال الأراضي العربية، ولا يفوت الكاتب أن يذكّر، وبشكل موثق، بما صدر عن الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص الأوضاع الأخيرة في قطاع غزة، حين صرح بأن ليس هناك ما يبرر أن يتم تعمد قتل المدنيين أو جرحهم أو اختطافهم، وأن هجوم حماس لم يأت من العدم ولكن نتيجة احتلال إسرائيلي يدوم منذ خمسين عاما، ويوضح الكاتب كيف تمت مهاجمة الأمين العام بسبب هذه التصريحات.
أما في الخاتمة فيبين المؤلف أن كتابه محاولة لتحليل ما لم يكن في الحسبان بالنسبة إلى المسؤولين وللنخب في البلدان الغربية، واستخلاص المعاني من الأحداث التي وقعت وتبيان المسؤولية الأخلاقية التي نتجت عنها، والكتاب محاولة أيضا لترك أثر في الأرشيف للمأساة التي لا تزال مستمرة في فلسطين من ناحية، وفي الغرب من ناحية ثانية، ولا يغفل الكاتب أن يذكّر بأن ضيق ساحة النقاش حول هذا الموضوع بسبب التهديدات والاتهامات التي تعرض لها، قد زادت من إصراره على التصدي لذلك مساهمة منه لممارسة النقد تعزيزا لحرية التعبير، تلك المساهمة التي تتعلق بالجوانب الأخلاقية والقضايا السياسية في المجتمعات المعاصرة، وهذا مجاله حيث يدرس هذه الجوانب في الكولج دي فرانس.
وبيّن أخيرا بأنه يتبادل الآراء والأفكار في هذه المواضيع مع المفكرين والمتخصصين في الولايات المتحدة، وأوروبا، والشرق الأوسط، ويختم بأنه على ثقة بأن ما سيصدر من أعمال ودراسات في السنوات القادمة سيثري المعارف فيما يخص الأحداث في فلسطين، وأوروبا، والولايات المتحدة، مؤكدا أن كتابه يسعى إلى التأكيد على الموقف الرافض، الذي يشاركه فيه الكثيرون، للقضاء على غزة.
يمكن أن نجد أمثلة أخرى عن أصوات وأقلام شجاعة في العديد من البلدان الأوروبية وحتى في الولايات المتحدة الأميركية، وسيكون مفيدا للتاريخ والذكرى أن يُترجم بعضها للغة الضاد تعزيزا لمختلف المواقف التي نراها ونقرأ عنها في البلدان العربية استنكارا لما يحدث في قطاع غزة وإدانة لما لحق به وبسكانه، ونحن نتوجس خطر الحرب الذي يتمدد إلى البلدان المجاورة لفلسطين.
* أكاديمي وكاتب سوري
مقيم في فرنسا.