جلست أمامه منصتاً وهو يحدثني عن علاقته بلبنان منذ الأربعينيات، وكيف كان هذا البلد بالنسبة إليه ولأسرته المتنفس والملجأ والمستقر للعيش والإقامة والتملك، ويفتخر بأن أبناءه الثلاثة كانت ولادتهم في لبنان، وسرح قليلاً ثم قال بعد أن تعرّف على موطني الأصلي: «يا أخي لماذا خرّبتم بلدكم هكذا؟ لماذا بعتم هذا البلد الجميل والعظيم إلى الأجنبي؟ العلة فيكم وليست في أحد غيركم؟ ولا ترموا مشاكلكم على غيركم، عندما تصبحون مواطنين لبنانيين قولاً وفعلاً تصلح حالكم وكل شيء سيتغير، لكن إذا بقيتم هكذا تتناحرون وتبيعون أنفسكم للغريب أيا كان جنسه ودينه وقوته وحجمه، فأنتم ذاهبون، كما قال رئيسكم الأسبق، إلى الجحيم».
كلام صادر عن رجل كويتي محب بلغ الثمانين من عمره، يستذكر أيام كان لبنان الرئة التي يتنفس منها أهل الخليج والعرب، هذه الحسرة تسمعها وبأصوات متعددة، تثير فيك المواجع والأسئلة التي تحولت إلى ألغاز بعد أن انتفت عنها صفة «المحظور».
ونحن هنا ننقل نبض الشارع الكويتي والخليجي بشكل عام، وإن اختلفت مؤشراته بين مجتمع وآخر بعيداً عن الحسابات السياسية ومواقف الأنظمة الحاكمة، صورة لبنان تفككت لدى الرأي العام الخليجي، وتهاوت مزاياه وأعمدته التي رفعته إلى الأعلى، ولم يعد ذاك البلد الذي يُضرب فيه المثل أو يشكل نموذجاً يسعون إلى تقليده أو السير على خطاه، لبنان لم يعد «حاجة مفقودة» فما كان يتمتع به من خصائل فريدة في المنطقة العربية انتهى مفعوله، وفقد الكثير من مقوماته.
انتهى دوره في عالم المصارف وأغلقت الأبواب التي كانت تدخل منها الأموال والودائع والاستثمارات، انتهى دوره في عالم الحريات والنشر والطباعة والصحافة الرائدة بعد أن تقوقعت الصحف اللبنانية على نفسها، ولم تعد مؤثرة كما كانت خارج حدودها الجغرافية، انتهى دوره أو كاد في تقديم الخدمات والرعاية الصحية، فالتوجه الخليجي نحو أوروبا والغرب وفي الداخل حرم بيروت من قدوم الخليجيين إليها وجعلها يتيمة، انتهى دوره أو كاد في مضمار التعليم الجامعي بعد أن استعاضت دول الخليج عن ذلك باستجلاب أهم الجامعات في العالم إلى ديارها وإرسال بعثاتها التعليمية إلى دول عديدة ليس من بينها لبنان.
انتهى كمحطة ترانزيت لحركة التجارة والشركات المتعددة الجنسيات وواحة للتواصل مع المحيط العربي والخليجي، فما تقدمه المطارات والمدن الساحلية وبوابات الاستثمار في الخليج يفوق ما كان لبنان يعطيه لهم، حتى السياحة والخدمات السياحية باتت في أسوأ عهودها نظراً للسقوط المذهل والمخيف لسعر الليرة تجاه الدولار وانعدام الكهرباء والمياه والاتصالات باستثناء ما حبا الله به هذا البلد من مناخ رائع وتنوع جغرافي متميز بسهوله وجباله وأنهاره وبحره ووديانه.
إذاً ما تبقى لديه بعد هذا التخريب والدمار الذي أحدثه وعلى يد مواطنيه، لن تقوم له قائمة إذا لم يصحُ أبناؤه من الكارثة التي أوصلوا فيها بلدهم إلى الهاوية، فلبنان فقد وظيفته ومشروعه الذي تفرد به، وهذه الخسارة لا علاقة لها بالأزمات الداخلية التي يعانيها، وهي ليست بالضرورة أن تكون نتيجة لذلك، بل لأن الآخرين تجاوزوا الدور اللبناني وملؤوا الفراغ واستحدثوا البدائل.
لذلك وجب البحث عن دور جديد له، عندي إيمان وقناعة بأنه يملك طاقات وثروة بشرية ذات كفاءات عالية قادرة على أن تحدث التغيير المطلوب في المشهد اللبناني والشرق الأوسط، فهل هناك من يملك المبادرة للعمل على استنهاض هذا الدور والتفكير به؟ نعم لدينا عقول بشرية رهيبة يمكن النهوض بها وبلبنان والمحيط أيضا.