أملاك الدولة بين التوزيع الجائر والحل العادل
تُعَدّ قضية أملاك الدولة في الكويت من أبرز القضايا التي أثارت الكثير من التساؤلات عبر تاريخ البلاد، خصوصا فيما يتعلق بآلية توزيع الأراضي والمزارع والجواخير والقسائم الصناعية. في كثير من الأحيان، لم تكن هذه التوزيعات تراعي الإنصاف والعدالة، وشهدت تجاوزات واختلالات استغلها بعض السياسيين والمتنفذين والنواب لتحقيق مصالحهم الخاصة أو كأداة لتحقيق مكاسب سياسية. هذه الممارسات خلقت فجوة عميقة بين المواطنين والدولة، وأثّرت سلباً على الاقتصاد الوطني. على مدى أكثر من خمسين عاماً، تم توزيع هذه الأملاك بطريقة تفتقر إلى الشفافية وغياب سياسات واضحة تضمن العدالة، لذلك، أصبح من الضروري إعادة النظر في هذا الملف بمنظور شامل وعادل يتماشى مع التوجهات الجديدة للدولة.
في الآونة الأخيرة، وردت تصريحات من مصادر مطلعة تفيد بأن الدولة تسعى إلى منع تداول عقارات أملاكها الخاصة، والتي تشمل آلاف القسائم. وأعقبت ذلك تصريحات أخرى تؤكد جدية الحكومة في تنفيذ هذا القرار. ومع ذلك، أثارت هذه التصريحات حالة من الإرباك بين المواطنين بسبب تضارب الأنباء وغياب التوضيح الرسمي بشأن الخطط المستقبلية لأملاك الدولة. هذه الحالة من الشائعات والمعلومات غير المؤكدة وضعت المواطن والمستثمر الكويتي في موقف صعب، حيث أصبح من الصعب التخطيط والاستثمار بوضوح، مما يلقي بظلاله على الاقتصاد الوطني، ويؤثر على النشاط الاقتصادي بشكل عام.
يُعتبر قطاع أملاك الدولة مورداً اقتصادياً ضخماً، ويشكّل ثاني أكبر مصدر دخل للبلاد بعد النفط، باستثناء الاستثمارات الخارجية. ومع ذلك، فإن ترك هذا القطاع في دائرة الغموض والاعتماد على الشائعات له عواقب وخيمة على الاقتصاد الوطني، ويؤثر سلباً على الحالة النفسية والاجتماعية للمواطنين، فالكثير من ثروات المواطنين وأعمالهم مربوطة بأملاك الدولة، واستمرار حالة الإرباك قد يدفع البعض إلى اتخاذ قرارات سلبية تؤثر على استقرارهم الاقتصادي.
شهدت الكويت عبر تاريخها مراحل مختلفة من توزيع أراضي الدولة، والتي تم تداولها بعد ذلك إما تجارياً أو عبر الإرث. ظلت هذه الأملاك أصولاً معترفاً بها من قبل الدولة بمختلف أجهزتها، وتم إقرار هذا التداول واعتماده. كما قامت الدولة مؤخراً بزيادة الأجرة والرسوم التي تتقاضاها من المواطنين والشركات مقابل استغلال هذه الأملاك، مما يعكس أهمية تنظيم هذا القطاع بما يتماشى مع المتغيرات الاقتصادية الحالية. وفي هذا السياق، نجد البنوك الكويتية تتسابق في تمويل المشاريع التي تقام على هذه الأراضي بموافقة وإشراف من البنك المركزي، مما يؤكد أن هذه الأملاك تمثل مورداً اقتصادياً كبيراً يُعتمد عليه في المشاريع التنموية.
ومع تزايد الشائعات والأخبار حول نية الدولة استرداد أراضيها، بدأت مشاريع قائمة بالفعل تتوقف عن الاستكمال، مما زاد من حالة التردد والارتباك في السوق. كما أشرنا في مقالات سابقة، ينبغي أن تكون الحكومة قريبة من المواطنين والمستثمرين عبر وضوح الرؤية والخطط المستقبلية بما يتماشى مع توجهات العهد الجديد. إن ترك قطاع أملاك الدولة في منظومة الشائعات وحالة الإرباك الحالية لن يخدم مصالح الدولة أو المواطنين، بل سيضر بالجميع.
نثني على توجه العهد الجديد نحو تنظيم أملاك الدولة بشكل عادل، ونؤكد أن هذا التوجه خطوة في الاتجاه الصحيح، لذا، ننصح الحكومة، ممثلة بسمو رئيس الوزراء المعروف بالقسط والإنصاف، ومعالي وزيرة المالية والوزراء المعنيين، بالإسراع في وضع إطار علمي واقتصادي ينظم هذا القطاع الحيوي ويقطع دابر الشائعات، ليصبح من أبرز إنجازات العهد الجديد الحسم في العلاقة الجدلية بين المستفيدين من أملاك الدولة والدولة.
في الوقت ذاته، نرى أن طرح الحكومة لأي إجراءات تهدف إلى إعادة تنظيم أملاك الدولة ينبغي أن يكون مدعوماً بخطط وبرامج مستندة إلى معايير دولية تحقق التوازن بين مصلحة الدولة والمستثمر والمواطن. مرت العلاقة بين الدولة ومستغلي قسائم أملاكها بمحطات عديدة شهدت علاقات غير سوية ترتبت عليها مراكز مالية غير مستقرة تحتاج إلى إعادة ضبط لضمان تحقيق العدالة للجميع. نأمل أن تكون معالجة هذه الإشكالية، التي تراكمت عبر فترات زمنية طويلة خطوة، فعالة نحو اقتصاد أكثر توازناً ووضوحاً.
الحكومة مطالبة اليوم بالنظر إلى قضية أملاك الدولة من منظور اقتصادي شامل لا يقتصر على ميزانية الدولة بل يأخذ بعين الاعتبار أثر هذا القطاع على الاقتصاد الكويتي بشكل عام. وإذا أخذنا القطاع الزراعي كمثال، نجد أنه يشكّل عنصراً حيوياً لتحقيق الأمن الغذائي، وقد برزت أهميته خلال أزمة كورونا عندما تعطّلت خطوط الإمداد، لذا، يجب تطوير هذا القطاع ضمن رؤية تجعله داعماً للسياحة الزراعية، ومصدراً لتنمية القطاع الزراعي، ومحفزاً للاقتصاد المحلي عبر تشجيع المشاريع الزراعية ذات النفع العام.
اعتماد الحكومة لائحة الترفيه والسياحة الزراعية المقترحة من قبل هيئة الزراعة وتوجيه أي رسوم جديدة لتحفيز هذا القطاع سيعود بالنفع على الأمن الغذائي، وسيعزز دور أملاك الدولة في خدمة الاقتصاد الوطني دون الإضرار بمصالح المستثمرين والمزارعين الجادين.
ختاماً، ندعو الحكومة إلى اعتماد سياسات اقتصادية علمية تضمن تحقيق التنمية الشاملة، وتستند إلى تجارب دولية ناجحة في تنظيم أملاك الدولة، مثل تركيا والسعودية اللتين نجحتا في تحويل العشوائيات العقارية إلى موارد اقتصادية تعود بالنفع على الجميع.
*وزير الصحة الأسبق