يشوب العلاقات بين إيران وكل من أميركا والكيان الصهيوني نوع من التعقيد وكثير من اللبس الذي يعدّه بعض الناس مفهوم الأبعاد وواضح المعالم وليس بجديد، في حين تنتاب الآخرين حالة من التشكيك في كل ما يحيط بالعلاقات الدولية والسياسية من ضبابية تحكمها لعبة المصالح.

وهنا يبرز التساؤل الموضوعي والمنطقي عن الحقيقة التي تقف خلف التناقض الواضح بين العداوة المعلنة بين الأطراف الثلاثة من جهة، وتبادلهم للكمات غير قاضية من جهة أخرى!؟ فهل نحن أمام مسرحية سياسية تدار بمهارة على الساحة الدولية والإقليمية، أم أن هناك صراعاً حقيقياً تدور رحاه ببطء مملّ وقاتل؟

Ad

لا شك أن التبادل المحدود للضربات العسكرية بين العدو الإسرائيلي وإيران في الساحات اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية، ومؤخراً في سمائهما وعلى أراضيهما، هي جزء من «لعبة استراتيجية» تحكمها قواعد الحدود «الآمنة» والخطوط الحمراء المرسومة لكل منهما ضمن اطار سيناريو محضر مسبقاً وشبه معروف من كل الأطراف المعنية من دول ومراقبين.

فرغم كل الغارات الإسرائيلية التي استهدفت- وما زالت تستهدف- مواقع إيرانية داخل حدود الجمهورية الإسلامية وفي المنطقة، ورغم الضربات الموجعة التي تلقاها رأس حربة «محور المقاومة» حزب الله بفقدانه أمينه العام وكبار قادته العسكريين والآلاف من كوادره، ما زالت إيران ثابتة على نهج الضربات المحدودة وسياسة «اختيار الزمان والمكان المناسبين للرد المزلزل، تاركة المهمة الصعبة للحلفاء الذين يدورون في فلكها.

أما الموقف الأميركي، فهو الأكثر التباساً- رغم وضوحه- إذ تؤدي الولايات المتحدة الأميركية دور الحكم والمتفرج في آنٍ واحد، وذلك كنتيجة طبيعية ومباشرة لثوابت الدولة العميقة التي توجّه القرار في البيت الأبيض الذي نجح باعتماد نهج «الإدارة والتحكم» في العلاقة بين الحلفاء والخصوم.

فتحت سقف عدم المساس بالهيمنة الإسرائيلية على القرار العسكري والسياسي في الاقليم، وضمن استراتيجية استمرار الصراع بين الأطراف والمكونات الدينية والإثنية والعقائدية الموجودة في المنطقة، تغطّي أميركا توجيه الكيان الصهيوني لضربات غير قاضية هنا أو هناك، في وقت تُبقي طاولة التفاوض مفتوحة مع إيران بشأن برنامجها النووي والعقوبات الاقتصادية.

سياسة «الخطوط الحمراء» التي تضعها أميركا بين الفينة والأخرى تؤكد قدرتها على التحكم في مستوى التصعيد، وكأنها في ذلك مخرج متمكّن ينظّم أداء الممثلين على المسرح، دون أن يترك مجالاً لأي ارتجال قد يهدد نجاح المسرحية.

من جهة أخرى، وفي حين يصمّ العدو الإسرائيلي آذاننا- ليل نهار- بالتحذير من الخطر الإيراني عليه ككيان وعلى العالم والمنطقة، يتعمّد اتباع نهج الفوز بالنقاط على النظام الإيراني الذي يتقن- بدوره- المناورة مع الغرب بشأن برنامجه النووي الذي يبدو أنه مستمر فيه تحت أعين المراقبين الدوليين.

من هنا لم يعد مستهجناً أن يشعر المراقب بأن وسائل الضغط السياسية والعسكرية المتبادلة أشبه باستعراض للقوة يخدم الأهداف السياسية، أكثر من كونه محاولات جدية لتصفية الحسابات فعلاً، ولتطبيق الشعارات والقناعات المعلنة حقاً! فالتشابك الاستراتيجي بين المصالح يضع الأطراف الثلاثة المعنية أمام حسابات معقدة تخفف من حدّة التصعيد الكامل وتدفعهم الى الحذر من الوقوع في فخ المواجهة الشاملة، وذلك لتجنب العواقب التي قد لا يكون أحد مستعداً لتحملها في المرحلة الراهنة على الأقل.

في النهاية، تبقى شعوب المنطقة هي الضحية الحقيقية لما ينتج عن حالة التوتر الدائمة على كل المستويات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وما اهتراء الوضع في لبنان وانهيار الدولة فيه ومعاناة شعبه الا مثال على ذلك، وما القلق على مصير غزّة الصمود ومستقبل أهلها المكلومين الا تأكيداً على أننا نجني مآسي ينثر الآخر بذورها في أرضنا.

ويبقى الرابح الأكبر هم صناع وتجّار الأسلحة والقوى المتحكمة بالقرار الدولي التي تجيد إدارة التوترات لإبقاء المنطقة في حالة من الاحتياج الدائم للحماية، ويبقى السؤال المطروح عن حق: إلى متى يستمر هذا الوضع على حاله، وما حدود الصبر لدى الأطراف الثلاثة قبل أن ينفلت زمام الأمر منهم فيحترق المسرح بمن عليه وبما فيه؟

من السابق لأوانه القول إن إيران تخلّت كلياً عن ورقة حزب الله، رغم أن التحولات الأخيرة في العالم والشرق الأوسط تبدو وكأنها دفعت طهران إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، ولاسيما في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها داخلياً والضغوط التي تتلقاها من الخارج، مع تيقنها من الهيمنة العسكرية للعدو الإسرائيلي المدعوم من دول حلف الناتو والولايات المتحدة الأميركية دون قيد أو شرط.

هذا لا يعني تخلي طهران كلياً عن دعم حزب الله، بل ربما تغييراً في أساليبه ليصبح أكثر تركيزاً على المناصرة السياسية وتعزيز التوجيه المعنوي والديني، إلى جانب دعم عسكري محدود لن يُسمح له مستقبلاً بأن يكون مؤثراً كما كان عليه في الماضي القريب.

تطورات المنطقة السياسية والعسكرية، والبراغماتيكية الإيرانية، تجعل طهران بحاجة ماسة إلى تخفيض وتيرة وحدة المواجهات المكلفة وتجنب الانخراط المباشر في صراعات قد تستنزفها أكثر في ظل العقوبات الاقتصادية المنهكة وفي ضوء توجهاتها المستجدة لتحسين علاقاتها مع دول الجوار والعالم.

وعلى المستوى اللبناني، ليس من المتوقع ولا المنطقي بأن العدوان على لبنان سيؤدي الى قضاء نهائي على حزب الله وجوداً ودوراً، إذ رغم ما ينتج عن الحرب من خسائر جدّية في البنية العسكرية والمالية للحزب، من المتوقع بعد وقف اطلاق النار أن يتعاظم دوره السياسي نتيجة عنصرين حاسمين هما: التفاف بيئته الحاضنة حوله تحت تأثير مجموعة من القناعات والاعتبارات الدينية والسياسية والجغرافية، اضافة الى ما يظهر في الميدان من تكتيك عسكري يتّبعه الحزب بالاعتماد على بطولات فردية في المعارك البريّة وعدم التفريط بكل قواه العسكرية- خاصة الصاروخية- لإبقاء جزء منها بين يديه كورقة قوة مستقبلية.

كل ما ينتظرنا للأسف هو أخطر وأكبر مما عهدناه من مآس وانهيارات وانقسامات، وأي تغيير حقيقي في التركيبة الشعبية والسياسية وبناء الدولة سيتطلب بعض الوقت وفاتورة مرهقة ومكلفة على كل الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

* كاتب ومستشار قانوني