كيف حالكم؟

تسأل بخجل في رسالة مكررة كل يوم ولأكثر من عام وأنت تكتب للأصدقاء في غزة وفلسطين وجنوب لبنان وكل لبنان، عندما راحت تحولت كلها الى أهداف مبررة للصهاينة كل الصهاينة، أولئك الذين أقاموا مدنهم فوق القرى والمدن الفلسطينية وأطلقوا عليها تسميات مختلفة متصورين أنهم بذلك يمحون الاسم والذاكرة، أو حتى الصهاينة المقيمين في عواصم أوروبية أو في واشنطن والأكثر صهينة هم من يسكنون بيننا.

Ad

يردون عليك بنبرة كلما مرت لحظة عليها زادت حزنا، وهم يجردون لأصدقائهم كم راح من ضحايا في ذاك اليوم، وهو، أي اليوم، لم يقفل بابه بعد، كلهم ينهون رسائلهم بأن الوجع كبير والضحايا من البشر أكثر وأكثر، لكنهم ينهون رسائلهم أو اتصالاتهم ببعض الأمل، وكأنهم يطبطبون علينا خوفا من أن يكسروا قلوبنا نحن الجالسين نمارس حياة لا تخلو من ملل الروتين، ولا نشتكي إلا من بعض حرارة ورطوبة الجو «المزعجة» أو عدم توافر هذه المادة أو تلك!!! وهم يبحثون عن كسرة خبز وقطرة ماء وقطعة قماش يلفون بها أمواتهم ليرقدوا بستر وسلام في أرض ارتوت بدماء طاهرة.

منذ أيام توقف هو عن الرد على رسائلي واتصالاتي واختفى في عتمة اللحظة، قلقت ولكن لأخفف من قلقي وقلقنا عليه وعلى أسرته وعلى الصديق الآخر في غزة الذي لا يتوقف عن الكتابة ونقل الأخبار ويختمها لا نزال نستيقظ على الموت والدمار متدثرين ولا نزال متدثرين بالأمل في فرج وانتصار وتحرير.

أعرف ألا كهرباء هناك، ولا شبكة إنترنت، لكني أعرف أنهم يدركون مدى القلق عندما ينقطعون، ويدركون أن استمرارهم في إرسال الرسائل هو بحد ذاته مقاومة ونشر للرواية كما هي، بدلا من أن يمر الرقيب هنا أو هناك يختار ما يشاء منها وما يريد أن ينشره في ذاك اليوم.

عند الظهر، جاءت رسالته «إحنا بخير يا عزيزتي متعبين جدا وموجوعين جدا ولكن أكثر ما يؤلمنا هو هؤلاء الصهاينة بيننا»، تكلمنا بعدها وفضفض هو وكثير من الأصدقاء الآخرين بلوعة عن الصهاينة الذين إما يعادون أو يبررون أو ينشرون قصصاً لا ينشرها أكثر الصهاينة تعصبا أو حتى يشككوا في جدوى أن تقاوم من أجل أرضك وحريتك وحقك، ألم يقولوا اللهم اكفني شر أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم؟

أما صديقتي الأخرى من بيروت فقالت «أخ يا حبيبتي كم مرهقة ومؤلمة حربنا ضد يهود الداخل»، وكانت تقصد صهاينة الداخل، وعندما نخفف عنها وعن الأصدقاء من الجنوب أو من فلسطين، يأتي صوته هو الذي بقي طوال حرب 2006 وما قبلها وبعدها متفائلا بابتسامته الخجولة، يقول بشيء من الغصة «قصفوا بيوتنا فخرجنا، وقتلوا أهلنا فدفناهم عندما استطعنا بين قذيفة وأخرى، ثم عادوا ليرسلوا صواريخهم على المقابر فراح قبر أبي وغيره من قبور الأعزاء والأحبة، إنهم يحقدون حتى على الموتى منا يا عزيزتي.. إنهم لا يعتبروننا بشراً، والمذهل أن معهم يقف العالم ليتفرج على صور ذبحنا اليومية، مذبحة خلف مذبح، حتى تهنا في العد وحساب المذابح، كم عددها وكم راح منا أحبة؟».

أما صديقتي البعيدة بجسدها والقريبة جدا بقلبها فلا تتوقف عن الذهول أمام كم الصهاينة بيننا، وما يقومون به من تصرفات وتصريحات وأعمال كلها لا تكشف إلا عن خطاب لا يخرج حتى من تل أبيب... هي تتابع صهاينة الداخل بغضب وما إن صدر كتاب بوب ودوورد «حرب» حتى انذهلت من عددهم أو كيف يتفقون على قتل أخيهم وكأن النار ستتوقف عند حدود فلسطين ولبنان، ألا يعرفون أن الصهاينة لا يحترمون من يخون بلده وأهله؟

عادت للظهور عبارة المفكر عبدالوهاب المسيري قبل ربع قرن، عندما قال قد نصل الى مرحلة يصبح فيها الإنسان العربي والمسلم «صهيونيا وظيفيا» يؤدي الوظائف نفسها التي كان يؤديها القائد العسكري الإسرائيلي أو التاجر اليهودي الموالي لإسرائيل.

يبدو أننا في هذا الوقت كما تنبأ هو منذ سنين وعندما ابتسمنا وقلنا ربما في ذلك بعض من التشاؤم لأننا كعرب ومسلمين وبشر لا يمكن أن نقبل بهذا الكيان الصهيوني، وسكتنا وصمتنا واستمررنا في الانغماس في كثير من الأفكار والاستماع الى أقوال ونصائح وأكاذيب كلها ساهمت في أن يسكن الصهيوني بيننا فيصبح أكثر وجعا من ذاك الساكن في مستوطنات الصهاينة!!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية