منذ بدء أحداث غزة وأنا أقرأ صحيفة «هآرتس Haaretz» بشكل مستمر لمزيد من الفهم والإدراك، ولكونها الصحيفة الإسرائيلية الوحيدة المتاحة باللغة العربية في الإنترنت، مع التنويه إلى يسارية هذه الصحيفة، والتي تجعلها تتخذ مواقف مناهضة للسياسة الإسرائيلية الإجرامية، ومنها قيام مالك الصحيفة عاموس شوكين بمطالبة المجتمع الدولي بفرض عقوبات قاسية على إسرائيل نظير جرائمها في غزة، وذلك في مؤتمر صحافي أقامه في لندن الأسبوع الماضي، وهو ما واجهته الحكومة الإسرائيلية على الفور بحزمة إجراءات قمعية، تضمنت تقديم مسودة قانون جديد يقضي بحبس من يطالب بمعاقبتهم دولياً لمدة 10 سنوات!
من ضمن مقالات هذه الصحيفة لفت انتباهي مقال تضامني مهم مع الفلسطينيين، تم نشره بتاريخ 20 أكتوبر، بعنوان «كيف ومتى تم رفع التابو عن الإبادة الجماعية لسكان غزة؟» لتضمنه إجابة سؤال يراودنا جميعاً، كيف يتسنى لهؤلاء أن يجرموا ويسفكوا الدماء بهذا البرود من غير أدنى تمييز بين المقاتلين وغيرهم من المدنيين والنساء وحتى الأطفال؟ على الرغم من كونهم ضحايا هذه الأفعال الشنيعة في التاريخ، كانت دهشتي عندما أشار المقال إلى حقيقة توق جماعة من الصهيونيين لتدمير «نسل عماليق»، وهي الفئة التي تكتظ التوراة كراهيةً وحقداً تجاههم في العديد من المواضع، منها ما ورد في سفر صموئيل الأول، والذي يأمر صراحةً بقتل حتى الحيوانات! «فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا».
بمزيد من البحث عن «العماليق» يتضح أننا أمام شيء أقرب إلى الأساطير منه إلى أي شيء آخر، ففي رواياتهم أن العماليق هم مجموعة من القبائل العربية حاربت اليهود قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وهم من نسل شخص يدعى «عمليق أليفاز عيسو من نسل إبراهيم عليه السلام»، امتدت حياته لأكثر من أربعمئة عام! وفي تفسيرات التوراة أن ولادته جاءت من علاقة سفاح بشعة جمعت الأب «أليفاز» بابنته «تمناع» إمعاناً في شيطنة هذه الشخصية، كما تذكر روايات أخرى أنه من نسل العملاق عوج بن عنق الذي كان طوله 3.333 ذراعاً (4 أضعاف طول برج الحمراء)، والذي كان يشرب من السحاب ويصطاد الحيتان بيديه ويرفعها إلى الشمس ليشويها! وكأننا بصدد قصص كهنة مصر القديمة، التي برعت في خلق الأساطير للتحكم في البسطاء آنذاك، ولكنه عار على البشرية بعلمها وحضارتها المعاصرة أن تسمح لهذه الأوهام المقدسة التي لا تحترم المنطق ولا العلم ولا الإنسان أن تعبث بنا، فهي ليست مجرد أفكار جاهلية يعتقدها البعض، ولا قصص تُقرأ على الأطفال قبل النوم، فرئيس وزرائهم نتنياهو يستشهد بضرورة تذكر عماليق وأوامر كتابهم المقدس بشأنهم في تبرير الحرب، مستنهضاً نزعة اليهود الانتقامية للفتك بالعماليق في تلميح واضح إلى هوية العماليق الجدد وهم الفلسطينيون والعرب!
لنفترض خبلاً وهبلاً أن الأساطير هي حقائق تاريخية عصية على إدراكنا، وأن عمليق ليس مجرد شخصية كرتونية ظهرت في مسلسل مغامرات سندباد، كيف يمكن لهذا الكيان المدني والديموقراطي والحضاري تبرير قتل 50.000 بريء، والاستمرار في هذه المجزرة على مرأى من العالم ثأراً لما فعله عمليق بهم قبل آلاف السنوات؟