مع انتهاء الحسم في انتخابات الرئاسة الأميركية بفوز مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب بمنصب الرئاسة لـ 4 سنوات قادمة، يظهر على ساحة الأولويات الخليجية عدد من القضايا ذات الارتباط بالتوجهات الخاصة بسياسات الإدارة الأميركية التي تبناها ترامب خلال حملاته الانتخابية، أو من خلال أسبقية رئاسته الأولى بين عامي 2016 و2020، خصوصا أن الفوز الحالي لترامب يأتي في ظل اكتساح جمهوري لمجلس الشيوخ وكتلة قوية في مجلس النواب.

وللرئيس العائد ترامب توجهات صريحة في قضايا تهمّ دول الخليج العربية بشكل مباشر، كالنفط وأسعاره وارتباطاته البيئية والمناخية، وبشكل غير مباشر الضغط على دول الإقليم لرفع مستويات الإنفاق العسكري واحتمالية عودة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وحتى الأثر السلبي لتصاعد اتجاهات الشوفينية «اليمين المتشدد»، وما يترتب عليها من تولي المزيد من الزعماء المتطرفين قيادة دول العالم.

Ad

نفط وبيئة

ويعد ملف النفط واحدا من أهم الملفات الاقتصادية التي تهم ترامب ومنظومته الانتخابية، فهو داعم أساسي لزيادة إنتاج النفط الأحفوري، سواء التقليدي أو الصخري، بما يسهم في تعزيز عمليات شركات الطاقة الأميركية وخفض أسعار البنزين على المستهلكين، أي خفض أسعاره عالميا، مع إمكانية العمل لإعادة تدفق أكبر للنفط الروسي إلى الأسواق، والتي فرضتها الحرب الروسية - الأوكرانية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحزب الجمهوري غالبا ما يكون داعما لتبنّي ما يعرف بقانون «نوبك»، الذي يعتبر منظمة أوبك احتكارية تتحكم في أسعار وكميات النفط العالمية، مما قد يفتح الباب لفرض عقوبات وغرامات على المنظمة ودولها.

ومثله مثل القادة اليمينيين في العالم، فإن ترامب مناهض لقضايا المناخ، ويرى أنها «أوهام بيئية ومعركة مع طواحين الهواء»، وقد سبق إبان رئاسته أن انسحب من اتفاقية باريس للمناخ، وهو ما يرجّح إلى حد كبير إنهاء أو تقليص ضخم لخطة الرئيس السابق جو بايدن التي أطلقها عام 2022 لمكافحة التغيّر المناخي بقيمة 370 مليار دولار، من خلال تقديم حزمة حوافز مالية وضريبة للشركات والمصانع والمستهلكين الذين يتخلون عن استخدامات الوقود التقليدي - كالنفط والغاز وغيرهما - لمصلحة إنتاج واستخدام الطاقة النووية والطاقة المتجددة، فضلا عن تشجيع شراء السيارات الكهربائية والألواح الشمسية وتوربينات الرياح، وهي سياسات بيئية يتبناها الديموقراطيون بهدف تقليص الاعتماد على النفط والغاز، وفق تطلعات زمنية طويلة نسبيا، ولكن بصورة أكثر استدامة، وهي توجهات لن تكون لها أولوية، خصوصا في الإنفاق الفدرالي لدى الجمهوريين، وتحديدا في الجناح الأكثر تشددا الذي يمثله الرئيس العائد ترامب، الذي يميل إلى دعم وتحفيز شركات النفط على رفع الإنتاج والتوسع في الاستكشاف.

حرب تجارية

وغالبا ما ستفضي هذه السياسات إلى ارتفاع في معروض النفط العالمي، وبالتالي انخفاض أسعاره المدعومة حاليا بعوامل غير مستدامة، كالحرب بين روسيا وأوكرانيا أو العدوان الإسرائيلي على غزة وجنوب لبنان، والقلق من احتمال توسعها لتشمل مناطق أخرى في الشرق الأوسط، وهنا تعود الذاكرة إلى عهد ترامب الأول، عندما أشعل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أي أكبر اقتصادين في العالم، اللذين يشكلان معا 40 بالمئة من اقتصاد العالم، مما يشير إلى احتمالية الضغط على النمو الاقتصادي العالمي، فضلا عن نمو الاقتصاد الصيني الذي يُعد أكبر مستهلكي النفط في العالم، مما يؤدي إلى المزيد من انخفاض الأسعار عالميا، نتيجة تراجع الطلب في الصين بالتوازي مع احتمالات ارتفاع الرسوم على الصادرات، فدول مجلس التعاون الخليجي استوردت من الصين في النصف الأول من العام الحالي بضائع بقيمة 80 مليار دولار، وفرض الرسوم على الصادرات سينعكس تضخما في أسعار السلع بمنطقة الخليج.

كذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار أن الحروب التجارية ترفع من حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي، وبالتالي تخفض وتيرة تدفق الاستثمارات والأموال الأجنبية للأسواق الصغيرة أو حتى الناشئة إلى الأسواق الأكبر أو الأكثر تحمّلا للصدمات، مما يعني تضرر اقتصاديات دول الخليج من آثار أي حرب تجارية محتملة يقودها ترامب بين الولايات المتحدة والصين.

صناديق وأسلحة

قد يكون من مصلحة دول مجلس التعاون الخليجي أن الحزب الجمهوري أقل اهتماما أو تدقيقا في مسألة شفافية الصناديق السيادية الخليجية التي تجد اهتماما أكبر لدى الحزب الديموقراطي الخاسر للانتخابات، ويستخدمها أحيانا كأداة للضغط السياسي أو التجاري، إذ تمتلك أغنى دول الخليج العربية (السعودية، والإمارات، وقطر، والكويت) مجتمعة في سندات الدَّين الأميركي فقط نحو 250 مليار دولار، فضلا عن الاستثمارات السيادية الأخرى في الولايات المتحدة، بل إن أول تعهدات ترامب بأن يخفض من حجم الضرائب، وهو ما يصب في مصلحة الاستثمارات الخليجية بأميركا، لكنه أيضا يرفع من مستويات التضخم، غير أنه في الزاوية المقابلة، فإن رئاسة ترامب الأولى شهدت ضغوطا على الدول الخليجية لرفع إنفاقها العسكري، خصوصا من الولايات المتحدة، إذ تشير تقديرات معهد استوكهولم للسلام «وليست جميع الصفقات معلنة»، إلى أن دول الخليج ضاعفت حجم صفقاتها العسكرية لتصل إلى 160 مليار دولار في عهد ترامب الأول، مقارنة بما كانت عليه في عهد أي رئيس أميركي آخر.

«فدرالي» وشوفينية

ومع أن أي رئيس للولايات المتحدة لا يملك التدخل المباشر في السياسة النقدية للمجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي، إلا أنه غالبا ما يمارس ضغوطه، بل وهجومه أحيانا على «الفدرالي»، لحثه على خفض أكبر للفائدة، وهو أمر سينعكس بشكل مباشر حال تحققه على سياسات جميع البنوك المركزية الخليجية النقدية عدا الكويت، المرتبطة بسلّة عملات وليس فقط الدولار... وهذه الضغوط لو نجحت، فإنها بالمقابل ليست عملية سهلة مرتبطة فقط بضغوط ترامب، لكونها ستشعل المعركة مجددا مع التضخم في الولايات المتحدة وبقية دول العالم ومنها منطقة الخليج العربي.

والتوجهات اليمينية المتشددة أو الشوفينية في العالم تعيش درجة من الانتعاش بكل ما تحمله، ليس فقط من مغالاة أو نزعات متطرفة في الهيمنة أو إشعال الحروب، بل أيضا في تبنّي سياسات اقتصادية منفلتة تجاه الخصخصة غير المنضبطة ومناهضة الهجرة و«الحمائية» التجارية، وحتى في مسائل التعامل مع الفقر.

وهو ما يعبّر عنه استمرار نجاح ناريندرا مودي في الهند بقيادة حزبه الهندوسي المتشدد «بهاراتيا جاناتا»، فضلا عن تواصل سيطرة بوتين في روسيا، وفوز أحزاب اليمين في المجر والنمسا والسويد وإيطاليا وهولندا، مع تنامي قوة هذه الأحزاب في فرنسا وألمانيا، فضلا عن عودة أحزاب اليمين للحكم في أميركا اللاتينية، مثل كولومبيا وباراغواي، ونجاح ميلي، الذي يصف نفسه بـ «الرأسمالي الفوضوي» في الأرجنتين.

مرونة الخليج

ومع التأكيد على وجود احتمال - وهو على الأرجح ضعيف - بألا يكون ترامب في رئاسته الثانية مماثلا في سياساته لرئاسته الأولى، فإن أمام دول الخليج تحدي التعامل مع ما يمكن أن تخلّفه سياسات ترامب على النفط وتحولات الطاقة والتجارة العالمية والاستثمارات والإنفاق العسكري، من خلال وجود مشروع خليجي تتبناه دول مجلس التعاون بشكل جماعي لا بشكل فردي، كما هي الحال لزيادة درجة مرونتها تجاه التقلبات الاقتصادية العالمية الآن، فدول الخليج بما تملكه من ثروات طبيعية وسيادية وموقع جغرافي مؤهلة لقيام اتحاد اقتصادي على مستوى مجموعة آسيان أو بريكس أو حتى الاتحاد الأوروبي، متى ما اقترنت جودة الإدارة مع سلامة الأهداف.