«إنَّ الجوَادَ عَيْنُهُ فرَارُهُ»، مثل عربي قديم يقال لمن يدل ظاهره على باطنه، فيُغني عن اختباره، فيكون أهلاً للثقة لمن يريد أن يستعين به لأمر ما، والفِرار بكسر الفاء وبضمها معرفة قدر سِنّ الدابة من معاينة أسنانها، ويقال أيضاً للخبيث الذي تكشف خبثه عينه: «إنَّ الخبيثَ عينه فرَاره»‏.‏

وقد قيل قديماً إن الذكاء يطل على السن، فقال زهير بن أبي سلمى عن ذلك:

Ad

يفضله إذا اجتهدا عليها

تمام السن منه والذكاء

وقال شاعر في ذلك:

تعرف من عينيه نجابته

كأنه بالذكاء مكتحل

وقال راجز في صفة الذئب:

أطلس يخفي شخصه غباره

في شدقه شفرته وناره

فالجواد إذا نظر إليه العارف المجرب عرفه من غير احتياج إلى فره واختباره، وكان نظره إلى عينه، أي شخصه، فراراً له، أي قائماً مقام الفرار، فيقال: فلان عينه فرار لهذا المعنى، أما الجواد فهو العتيق من الخيل الكثير الجري، سمي به لأنّه يجود بنفسه.

***

الحسن بن سهل أرسل إلى القاضي محمد بن سماعة يريد أن ينصحه برجل ثقة يُعرف من عينه ليستعين به، ولكن ما طلبه صعب، ونادر بين الرجال، فقد كتب: أما بعد فإني احتجت لبعض أموري إلى رجل جامع لخصال الخير، ذي عفة ونزاهة طعمةٍ، قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، ليس بظنين في رأيه ولا بمطعون في حسبه، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهماً من الأمور أجزأ فيه، له سن مع أدب ولسان، تقعده الرزانة ويسكنه الحلم، قد فر عَن ذكاء وفطنة، وعض على قارحة من الكمال، تكفيه اللحظة، وترشده السكتة، قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام في أمورهم فحمد فيها، له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه، وحسن بيانه، دلائل الفضل عليه لائحة، وأمارات العلم له شاهدة، مضطلعاً بما استنهض، مستقلاً بما حُمل، وقد آثرتك بطلبه، وحبوتك بارتياده، ثقة بفضل اختيارك، ومعرفة بحسن تأتيك.

ورد عليه القاضي قائلاً: إني عازم أن أرغب إلى الله عز وجل حولاً كاملاً في ارتياد مثل هذه الصفة، وأفرّق الرسل الثقات في الآفاق لالتماسه، وأرجو أن يمن الله بالإجابة، فأفوز لديك بقضاء حاجتك، والسلام.