فن حافة الهاوية

في مقابلة أجرتها مجلة لايف الأميركية عام 1956 مع جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية وقتئذ، استخدم تعبير حافة الهاوية في هذه المقابلة مقرراً أنه فن ضروري في العلاقات الدبلوماسية، وأن ممارسة هذا الفن جنبت أميركا التورط في الحرب في عدة مناسبات، وقد استخدم البروفيسور شبليغ (الأستاذ في جامعة هارفارد) هذا التعبير، واعتبره مصطلحا في كتابه «استراتيجية التصادم».

Ad

وأستميح عذراً بعض «نواب الأمة» في أن أستخدم تعبير «فن حافة الهاوية واستراتيجية التصادم» في ممارسة حقهم الدستوري في استجواب الوزراء واستجواب رئيس مجلس الوزراء، وإن كان ذلك لم يجنب التجربة الديموقراطية تعطيل الحياة البرلمانية في هذه التجربة، عامي 1985 و2022، باعتباره ذلك المخرج الأخير من هذا المأزق الذي هدد وحدة الوطن واستقرار الحكم، وهما العمود الفقري للدستور، بعد أن انفرط التعاون بين السلطتين: التشريعية والتنفيذية، وهو التعاون الذي يقوم عليه نظام الحكم في الكويت، في الفصل بين السلطات الذي أرسته المادة (50) من الدستور، فيما نصت عليه من أن «يقوم نظام الحكم على أساس فصل السلطات مع تعاونها».

وبهذا النص يقرر الدستور مبدأ فصل السلطات صراحة في هذه المادة بدلا من تقريره دلالة من واقع الأحكام الخاصة بالسلطات العامة– كما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور- وذلك «دفعا لكل خلاف أو جدل حول هذا المبدأ».

وقد اتسمت بعض الاستجوابات بتجاوز هذا المبدأ، لسلب كل أو بعض اختصاصات السلطة التتنفيذية، أو إلزامها بممارستها على النحو الذي يحقق الوعود الانتخابية التي قطعها بعض النواب على أنفسهم، للفوز بمقاعدهم النيابية، وقد حظرت المادة (50) من الدستور، سالفة الذكر نزول أي سلطة عن كل أو بعض اختصاصاتها المنصوص عليها في الدستور، وهو ما حذر منه الرعيل الأول الذي وضع دستور الكويت، في المذكرة التفسيرية التي أقرها مع إقراره، لتصبح ملزمة شأن نصوصه ذاتها.

ما تقرره المذكرة التفسيرية

وفي هذا السياق تقرر المذكرة التفسيرية: «ومن المأمول باطمئنان أن يحول حق التعاون المنشود، والذي حرص الدستور على تهيئة أسبابه، دون اللجوء إلى هذا الإجراء الاستثنائي البحت (سحب الثقة من الوزير واعتزاله منصبه)، فالصالح العام هو رائد الوزير في الحكم، وهو كذلك رائد المجلس في الرقابة، فوحدة هذا الهدف كفيلة بضمان وحدة الاتجاه، وتلاقي المجلس والحكومة في تقدير صالح المجموع، على كلمة سواء، ومن أنه ليس أخطر على سلامة الحكم الديموقراطي من أن يكون... الحكم غاية لا مجرد وسيلة لتحقيق حكم أسلم وحياة أفضل، وإذا آل أمر الحكم الديموقراطي إلى مثل ذلك ضيعت الحقوق والحريات باسم حمايتها، وصرف العمل عن موضعه ليصبح تجارة باسم الوطنية.

ويندرج في هذه التجارة المزايدة السياسية على الحكومات المتعاقبة التي اتسمت بها بعض الاستجوابات، باسم مصالح ذاتية، لبعض الفئات من الناخبين على المصلحة العامة، والتي بدت واضحة في التعديلات التي أجراها مجلس الأمة، على قانون التأمينات الاجتماعية، مراراً وتكراراً لتحقيق رغبات بعض الناخبين في التقاعد المبكر، على حساب جوهر نظام التأمينات الاجتماعية، الذي يقوم على التكافل الاجتماعي بين الأجيال المتعاقبة، للحفاظ على حقوق الأجيال القادمة، وقد أهدر التقاعد المبكر سياسة تكويت الوظائف وجعلها أثراً بعد عين، وقد حاولت الحكومات المتعاقبة ما وسعها التصدي لهذه التشريعات وغيرها بفكرها المستنير الثاقب في أمور هذه التشريعات، بحكم الأدوات العلمية والفنية والمعلوماتية التي تملكها، إلا أن الاستجواب كان يلاحق وزراءها لتمرير هذه التشريعات.

وفي سياق ما كتبت من مقال يوم الأحد الماضي، استعدت فيه من الذاكرة، اقتراحا كنت أراه ضروريا منذ سنوات، وقد طفح الكيل، ووصل السيل الزبى، بضرورة صدور أمر أميري بإيقاف العمل بأحكام المادتين (101و102)، المتعلقتين بسحب الثقة من الوزراء أو تقرير (عدم إمكان التعاون، مع رئيس مجلس الوزراء، حتى لا نصل إلى حافة الهاوية في التعاون المفقود بين السلطتين التشريعية والتنفيذية).

وكان اقتراحي المذكور قد تضمن فضلا عن إيقاف العمل بهاتين المادتين الإبقاء على المادة (100) من الدستور التي تقرر الحق الدستوري في الاستجواب، لحين تعديل أحكام اللائحة الداخلية، لمجلس الأمة، وتقرير الضمانات والضوابط والأحكام التي تنظم طرح الثقة بالوزراء، مادة (101) أو عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء مادة (102)، للحد من إساءة استخدام حق الاستجواب.

ما الجدوى من استجواب لم يؤد إلى سحب الثقة؟

وقد سألني بعض المهتمين بهذا السؤال فأجبته بأن دولا ديموقراطية لا يعدو أن يكون الاستجواب فيها وسيلة للحصول على معلومات شأنه شأن السؤال، ولا يختلف عنه إلا في أنه يطرح الموضوع– محل الاستجواب- لمناقشة عامة يشارك فيها سائر أعضاء البرلمان، ومن هذه الدول النمسا وألمانيا والبرازيل وإيطاليا وهولندا وسويسرا والسويد.

وتضمن اقتراحي، كذلك أن تكون إعادة العمل بأحكام المادتين (101و102) من الدستور رهنًا بتعديل مجلس الأمة للائحة الداخلية، لوضع ضوابط وأحكام ضرورية في استخدام كل من حق الاستجواب وحق طلب سحب الثقة من الوزير أو طلب تقرير عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء، لتجنيب التجربة الديموقراطية الكويتية، هذه الأزمات الدستورية المتتالية، عقب كل استجواب، الأمر الذي أدى إلى حل مجلس الأمة مرارا وتكرارا وإلى تعطيل الحياة البرلمانية مرتين وإلى عدم استقرار الحكم.

ولم أكن متفائلا في أن أتلقى ردا على هذا الاقتراح الذي أرسلته على الواتساب إلى بعض القيادات السياسية، أعرف ما تتمتع به من حكمة وحنكة وخبرة، وما تحمله من حماس شديد للتجربة الديموقراطية وأنها تخشى مثلى وأكثر، من الانزلاق بالتجربة الديموقراطية الكويتية إلى حافة الهاوية في التعاون بين المجلس والحكومة، وقد دفعت الكويت ثمنا كبيرا في عدم مشاركة بعضهم في الحكم، بالامتناع عن المشاركة فيه أو الامتناع عن الاستمرار فيه، أو الإحجام عن قبول المنصب الوزاري، فليس الحكم في الكويت مغنما، كما هو في البلاد الأخرى، بل هو خدمة وطنية، مع ما تزخر به التجربة الديموقراطية في الكويت من وسائل الرقابة البرلمانية، ومن وراء التنظيم الدستوري لمسؤولية الوزراء السياسية، توجد كذلك بصفة خاصة رقابة الرأي العام، وهي العمود الفقري في شعبية الحكم، بما أتاحه الدستور من حرية الرأي وحتى التعبير عنه بكل الطرق، مادة (35) وما كفله من حرية الصحافة والطباعة والنشر، مادة (36).

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.