صفّارات الإنذار... ذاكرة القصيدة

نشر في 10-11-2024
آخر تحديث 09-11-2024 | 19:41
 أفراح الهندال

قبل أكثر من 30 عاماً سمعتُ صفّارات الإنذار أول مرة، أذكر رعبها المدوّي في المدرسة حتى اليوم، وارتطامي بكلّ الأبواب التي ألصقت عليها عبارات «أنقذوا الفاو»، كنّا نردّد في الفصل «وقف الأسير مقيّداً...» أدركتُ بعدها بأشهرٍ معنى «فإذا تلفّت حوله... وجد السلاح مسدّدا».

كان السلاح المعلق على كتف الجنديّ الذي فتّش غرفتي أطول منّي، أما بقية الجنود فكانوا يبعثرون كرّاسات المدرسة ويلوّحون بدفتر «العلامات» الخاص بأمي لأن صور الأمير تتصدّر الغلاف، لم يشفع لها كونها معلّمة، ولا أسماء البنات اللاتي كنّ يهتفن فيه: «تحيا الأمة العربية»، أذكر أبي وهو يشير إليها بأن تعود إلى البيت بإصرار، لن يفيدها البكاء واللحاق بالحافلة التي أخذوه فيها، اختفت من الشارع قبل أن نفارق حديقتنا... وقبل أن تستجمع أمي قواها المفجوعة بغيابه آخر أيام الاحتلال.

بعدها خيّم الدخان الأسود في سمائنا، ووشت الأمطار بقصص الغدر كلها على جدران البيوت والأعلام الذابلة والملابس المعلقة علي حبال الانتظار، والمنشورات التي كانت تتساقط مبللةً كجرائد تنبئنا باقتراب اللحظة الحاسمة لنور التحرير قريباً، عاد الوطن حراً، وعاد أبي سالماً، وأعمامي وأبناؤهم حاملين ذاكرة عصيّة على الفهم، ووجوهاً لم تعد معهم لشهداء ومفقودين علّمونا درس الوطن جميعاً.

تلك الذاكرة التي تقاطعت بتشغيل صفارات الإنذار التجريبيّ أكثر من مرة، أستعيدها من عتبة الوعي ومشاهد الكوارث الإنسانية التي يعانيها شتات الأمة العربية التي نسيت شعاراتها، وعانت بلدانها مرار الحروب المتلاحقة والثورات والانهيارات على المستوى الإنساني والأمني والثقافي والاجتماعي، كيف يمكنني أن أشرح لأبناء هذا العصر معنى الأمجاد والتاريخ الذي كان يكتب خطواته انتشاراً إلى المدى، لا تضعضعاً وانكفاءً على أمهات الكتب الثكلى بماضيها؟ وكأن «الزمن العربيّ شبيه بخذروف يدور حول ذاته في فضاء من الدم والفتك والعسف والأهوال اللانهائية» بتعبير حيدر حيدر في إحدى رواياته.

ما زال «الأسير مقيّداً»، فطغاة الانتصارات انهزموا حين أضاعوا بوصلتهم، ولكن ليكون معي بعض الأمل متلبسا التفاؤل كما تلحّ فينا جينات البقاء واعتمالاتها بحيواتنا القصيرة، هذا زمن جدير بالمقاومة، «الحياة عقيدة وجهاد» فكراً وعقلاً وقراءة بأسباب الحياة واحتفاء باكتشافاتها العلمية، لم نخترع النيران فقد كانت مقابر الفحم موجودة منذ البدء، الإنسان اكتشف كيف يشعلها بأحجار الصوان ويطفئها بأفكار السلام وقوانين الحقوق الإنسانية وهواء الحريّات، هكذا يكون للشعر الذي حفظناه تأويل جديد لا نكفر به، وهكذا نبني وطناً قوياً «في علا»، وهكذا ننصت إلى قيمنا ومبادئنا التي ضُخّت في الدماء ونحن نستدرك الخير والحق في ما نواجه اليوم على بوابة العصر الحديث، وطني الكويت سلمت للمجد.. وعلى جبينك طالع السعد، ولترجع فلسطين.. لبنان.. والأوطان المنهوبة حرةً من جديد، يا أرحم الراحمين.

back to top