بادئ ذي بدء فإن فن الهاوية واستراتيجية التصادم لشبلينغ، وإن جنب هذا الفن أميركا الحرب في كثير من المناسبات، كما قرر دالاس، وإن كانا يصلحان في العلاقات الدولية، أو الدبلوماسية التي طابعها الأصيل، بين الدول الاستعمارية الكبرى، هو تنازع وتعارض المصالح والفتور، وما يصاحب ذلك كله من حرب باردة في كثير من الأحيان إلا أن هذا الفن وتلك الاستراتيجية لا يصلحان في علاقات التعاون والتراحم بين أبناء الوطن الواحد، فهو فن مذموم واستراتيجية مكروهة في هذه العلاقات، التي يفترض أن تكون إنسانية في مجملها، لتحقيق المصالح العليا للبلد الواحد، التي لا تتعارض أو تتنازع أبدا، هما نشاز في سيمفونية التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، والأولى يتولاها الأمير ومجلس الأمة، والثانية يتولاها الأمير ومجلس الوزراء والوزراء، (المادتين 51 و52) من الدستور ودلالة تولي الأمير السلطتين هي أكبر من مدلول الكلمات التي صيغت بهما المادتان، هي أبوة الأمير لأبناء الوطن جميعا، ورعايته للتعاون بين السلطتين.

ولهذا استمحت نواب الأمة عذرا الذين أكنّ لهم كل تقدير، فهم ضلع في مثلث التجربة الديموقراطية في الكويت، ولهم فضل لا ينكر في إثراء هذه التجربة، وفي إشعاعها على الوطن العربي كله، عندما وصفت إساءة استخدام حق الاستجواب من بعض النواب باستخدامهم فن حافة الهاوية، واستراتيجية التصادم.

Ad

مثلث الديموقراطية في الكويت

وأذكر أن هناك كتابا يحمل هذا العنوان للصحافي الكبير محمد عبدالقادر الجاسم، ذلك أن ديموقراطية الكويت كالمثلث الذي يتكون من أضلاع ثلاثة، هي الأمير باعتباره أبا لأبناء هذا الوطن جميعا، والشعب باعتباره أحد الأركان الثلاثة للدولة (الأرض والشعب والحكومة)، وهيئة الناخبين، التي تتولى اختيار نواب الأمة في إطار حق الاقتراع العام، الذي هو جوهر الحكم الديموقراطي في الكويت، وهو ثمرة وحصاد نضال البشرية عبر قرون طويلة لإقراره. وذلك كله في إطار عقد اجتماعي أبرم بين الأمير وبين الأمة، ممثلة في مجلسها التأسيسي، والذي يتم تجديده في كل فصل تشريعي، يدعو فيه الأمير الناخبين لاختيار من يمثلهم في المجلس التشريعي، ويختار سموه بدوره الحكومة التي تعتبر ركنا من أركان الدولة، التي تمارس من خلالها الدولة سيادتها برا وبحرا وجوا على أرض الكويت الحبيبة (وهو الإقليم الركن الثالث في الدولة).

الدستور المظلة

والدستور هو المظلة التي يستظل بها مثلث الديموقراطية في الكويت بأضلاعه الثلاثة، بما أقره من حقوق دستورية، لكل ضلع من أضلاع هذا المثلث، حيث يعتبر الدستور الوثيقة الأساسية التي ترسم المسار السليم لمسيرة هذا المثلث، وسلطات الدولة الثلاث، التي تفرعت عن هذا المثلث، ليكون الأمير، وهو ضلع أساسي في هذا المثلث، أبا لأبناء هذا الوطن جميعا، يتولى مجلس الأمة السلطة التشريعية، (المادة 515) ويتولى مجلس الوزراء والوزراء السلطة التنفيذية، وتصدر الأحكام التي تتولاها السلطة القضائية باسم الأمير. هكذا أراد واضعو الدستور من الرعيل الأول أن تكون أبوّة الأمير لهذا الوطن، وهو ما جسدته المذكرة التفسيرية للدستور في استهلال تصويرها لنظام الحكم في تقريرها:

- بأن الأصل الجوهري في بناء العهد الجديد، الذي هو العمود الفقري لهذا الدستور هو وحدة الوطن واستقرار الحكم.

- ما امتاز به الناس في هذا البلد من روح الأسرة الي تربط بينهم كافة حكاما ومحكومين.

- وقد حرص الدستور على أن يظل رئيس الدولة أبا لأبناء هذا الوطن جميعا، وجعل ذاته مصونة لا تمس، مادة (54)، ونأى به عن أي مساءلة سياسية، وأبعد عنه مسببات التبعة، بالنص على «أن يتولى سلطاته بواسطة وزرائه». مادة (55).

سمو الدستور في مقاصده

وإذا كانت نصوص الدستور تتمتع بخاصية أساسية هي سمو قواعده في البناء القانوني للدولة، على غيرها من قواعد قانوينة، فإن هذا السمو لا يقتصر على نصوص الدستور التي تنص على هذه القواعد، وعلى المذكرة التفسيرية التي أقرها المجلس التأسيسي مع إقراره للدستور، بل تمتد إلى روح الدستور في بيان مقاصده وأغراضه، من خلال النظر إلى نصوصه كافة، باعتبارها وحدة واحدة لا انفصام بينها. وفي سياق تطبيق النصوص الدستورية كافة، ونصوص الاستجواب، المادة (100) وما قد يترتب على طرحه على مجلس الأمة من آثار، المادتان (101) و(102)، فإن ما يستدعي النظر في سياق ما قدمناه في مقال أمس، من إساءة استخدام حق الاستجواب تطل علينا حقائق أساسية هي:

الحقيقة الأولى

أن الاستجواب ليس حقا مطلقا، وهو ما قضت به المحكمة الدستورية في الكويت بأن السؤال البرلماني ليس حقا مطلقا للنائب لا يقيده قيد ولا يحده حد بل تحوطه ضوابط واعتبارات دستورية. وإن الحق في الرقابة البرلمانية سؤالا أم استجوابا يقف في مقابلته حق الفرد في حماية خصوصياته، بما يوجب التوفيق بينهما بالتنسيق والمواءمة على نحو يحقق مصلحة المجتمع. وهو ما دونته المحكمة الدستورية- بالنسبة إلى الاستجواب- في قرار تفسيرها رقم 8 لسنة 2004 بقولها: إن حق عضو مجلس الأمة في تقديم الاستجواب ليس حقا مطلقا، فالواقع أن جميع الحقوق لها حدود من حسن الاستعمال، فإذا جاوزت هذه الحدود انقلبت إلى ضدها، وفقد صاحبها، الحق فيها.

وإن من الضوابط الدستورية لممارسة حق الاستجواب، أن تدعو الحاجة إليه، واختيار الوقت المناسب لاستعماله واختيار موضوعه، وأن إمطار الحكومة بوابل من الاستجوابات في المجلس النيابي من غير ضرورة أو أهمية يعطل الحكومة عن أعمالها ويضيع على المجلس وقته ويقلل من قيمة الاستجوابات.

الحقيقة الثانية

أن بعض ممارسات هذا الحق، لم تقف عند الغاية من تقريره والغرض المقصود منه، فممارسة بعض النواب استعلاء أو اختصاما أو هدفا في ذاته، ومن المقرر أنه لا يجوز أن يبتر الحق عن غايته أو يجرد من المصلحة التي شرع لها أو أن يتخذ وسيلة لتحقيق غرض آخر، ينافي غرض المشرع فيما رسمه من غاية ومصلحة، وأنه إذا لزم من تحصيل المصلحة المشروعة نتائج ضرورية، وقع التناقض مع قصد المشرع (عاديا أو دستوريا) ولو كان في أصله مشروعا (التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي)- (فتحي الدريني- طبعة مؤسسة الرسالة) وهو ما قررته المحكمة الدستورية في طلب التفسير سالف الذكر بقولها إن الاستجواب لا يصح أن يكون منبرا للمطاعن الشخصية على الوزراء أو تناول أمورهم الشخصية أو خصوصياتهم وإلا ضاع الغرض المقصود منه بقصد النيل منهم أو التهجم عليهم أو التشهير بهم.

الحقيقة الثالثة

إن هذه الممارسات لم يحالفها الحظ في التوفيق بين نصوص المواد (100 و101 و102) من الدستور ونصوص الدستور الأخرى ومنها على الأخص المادة (56) من الدستور التي عهدت إلى الأمير تعيين رئيس مجلس الوزراء والوزراء، وقد اتخذت الاستجوابات والتلويح بها بما ينطوي على المساس بصلاحيات الأمير الدستورية، التي تنص هذه المادة على ممارسته لها، في اختيار رئيس مجلس الوزراء، بعد المشاورات التقليدية، كما يعين الوزراء ويعفيهم من مناصبهم، بناء على ترشيح رئيس مجلس الوزراء، وبما يخل بالتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بتوغل الأولى على الأخيرة، بإحلال إرادة النواب محل إرادة الأمير، وغير ذلك من نصوص دستورية صانت حقوقا دستورية أخرى أو كفلت حماية الحريات العامة، بما لا يتسع المقال الصحافي، لتعقب هذه المخالفات.

وللحديث بقية عن القيم العليا للدستور التي تنكبتها بعض الممارسات للاستجواب.