يعدُّ دستور الكويت منذ إقراره عام 1962 المرجعية الرئيسة لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد، فلم تقتصر نصوصه على تنظيم العلاقات بين السلطات المختلفة وإرساء الأساس المتين للحريات العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية فحسب، بل تجاوزت أبعادها لتتناول بصريح النص «التنمية الاقتصادية» التي تحولت في عصرنا الحالي الى هدف أشمل أطلق عليه مسمّى «التنمية المستدامة».

التنمية المستدامة في مفهومها المعاصر هي نهج تنموي يهدف إلى تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والحفاظ على البيئة، لضمان تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها، وبإمعان النظر في الدستور الكويتي، لا يتطلب الأمر كثيراً من الجهد والوقت لنكتشف أن نصوصه ومذكرته التفسيرية قد أسست بشكل واضح لركائز التنمية المستدامة بأبعادها الثلاثة، وبكل ما يدور من حولها أو يرتبط بها من حقوق وحريات ومبادئ، وفيما يلي بعض من ملامحها:

Ad

دعم التنمية الاقتصادية من خلال المبادئ الدستورية

يتضمن الدستور الكويتي نصوصًا تدعم تحقيق التنمية الاقتصادية العادلة والمتوازنة، ففي المادة (20)، جاء النص على أن «الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية، وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص، وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة»، وهذا ما يسلّط الضوء على الاقتصاد الوطني كأداة لتحقيق رفاهية المجتمع، ويشير إلى أهمية التعاون بين القطاعين الحكومي والخاص في تحقيق هذا الهدف.

ووفقاً للمذكرة التفسيرية لهذه المادة، فإن التعاون بين النشاط العام والخاص لا يهدف فقط إلى تحقيق نمو اقتصادي، بل يسعى أيضًا إلى توزيع الثروة بعدالة لضمان الاستفادة الجماعية من التنمية، وهذا ما كان ركيزة لإصدار عدة قوانين تنموية مثل «قانون الشركات» و«قانون تشجيع الاستثمار المباشر»، اللذين يسعيان إلى تعزيز بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات الأجنبية، مما يسهم في تنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للإيرادات.

وفي هذا الإطار، أضاء المشرّع الدستوري على ثلاثية مهمّة مكونة من حقوق «الملكية ورأس المال والعمل» التي أعطاها «وظيفة اجتماعية»، واعتبرها «مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعي»

تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة كركيزة للتنمية

ركز الدستور الكويتي على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع الناس كشرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة، وهو ما يظهر في المادة (7) التي تؤكد على أن «العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع» والمادة (29) التي تنص على أن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين».

وتضمن هذه النصوص توفير بيئة قانونية عادلة تتيح لجميع الأفراد فرصاً متكافئة للمشاركة في عملية التنمية والاستفادة من ثمارها، وهذا ما يعزّز من تماسك المجتمع واستقراره، ويوفّر للفئات الأقل حظاً الحماية القانونية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة، مما يسهم في الحد من الفقر والتفاوت الاقتصادي.

وتعكس المذكرة التفسيرية للدستور أهمية تعزيز العدالة الاجتماعية كجزء من تحقيق التنمية المستدامة، إذ أشارت إلى ضرورة توزيع الثروات بشكل عادل وتحقيق التوازن بين مختلف الفئات في المجتمع، مما يعزز الشمولية الاقتصادية ويسهم في استقرار البلاد على المدى الطويل.

التعليم والرعاية الصحية كأولوية دستورية

تشكل التنمية البشرية ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة، وقد أكد الدستور الكويتي على ذلك من خلال ضمان حق التعليم والرعاية الصحية للجميع، فنصت المادة (13) منه على أن «التعليم ركن أساسي لتقدم المجتمع، تكفله الدولة وترعاه»، في حين تؤكد المادة (15) على أن «تُعنى الدولة بالصحة العامة وبوسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة». يأتي هذا الالتزام الدستوري في إطار دعم السياسات التعليمية والصحية، التي تعد مكوناً رئيساً في بناء رأس المال البشري وتعزيز الإنتاجية، فالتعليم الجيد يساهم في إعداد جيل من الشباب قادر على الابتكار والإبداع، في حين يسهم توفير الرعاية الصحية في بناء مجتمع سليم قادر على المساهمة في عملية التنمية. وقد أظهرت العديد من الدراسات والتقارير وتوجيهات المؤسسات الدولية أن الاستثمار في التعليم والصحة يسهم في تحسين مستوى المعيشة وزيادة الإنتاجية الاقتصادية، مما يعزز من تحقيق التنمية المستدامة. وفي السياق ركّزت نصوص الدستور ومذكرته الإيضاحية على أن دعم السياسات التعليمية والصحية هي واجب رئيس من واجبات الدولة الراعية لشعبها والتي تقود دفّة التنمية والرفاهية الاجتماعية، فنصت المادة (40) على أن «التعليم حق لكل مواطن، تكفله الدولة وتسهر على نشره»، في حين نصت المادة (10) على أن «ترعى الدولة النشء وتحميه من الاستغلال وتقيه الإهمال الأدبي والجسماني والروحي»، وأكدت المادة (11) على دور الدولة في أن «تكفل الدولة المعونة للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل، كما توفر لهم خدمات التأمين الاجتماعي والمعونة الاجتماعية والرعاية الصحية».

وضمن هذا البعد التنموي حرصت نصوص الدستور الكويتي على تشجيع البحث والابتكار، فأشارت المادة (14) الى أن «ترعى الدولة العلوم والآداب والفنون وتشجع البحث العلمي»، أما المادة (36) «حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة» فأكدت على أن «لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما، وذلك وفقا للشروط التي يبينها القانون.

حماية الموارد الطبيعية لضمان الاستدامة البيئية

يولي الدستور الكويتي أهمية كبيرة لحماية الموارد الطبيعية باعتبارها ملكاً للأمة، ويظهر ذلك جلياً في المادة (21) التي تنص على أن «الثروات الطبيعية جميعها ومواردها كافة ملك للدولة، تقوم على حفظها وحسن استغلالها، بمراعاة مقتضيات أمن الدولة واقتصادها الوطني»، وهذا ما يعكس وجوب الالتزام بضمان الاستغلال المستدام للموارد الطبيعية والحفاظ على البيئة للأجيال القادمة.

وتجدر الإشارة الى أن هذه النصوص تتوافق مع «أجندة التنمية المستدامة 2030» التي اعتمدتها الأمم المتحدة، والتي تركز على أهداف بيئية تتضمن الحفاظ على التنوع البيولوجي، وإدارة المياه بشكل مستدام، وتقليل التلوث.

سيادة القانون كأساس للتنمية المستدامة

تعد سيادة القانون من الركائز الأساسية التي تعتمد عليها أي دولة لتحقيق العدالة والتنمية، وهذا ما يشمل تكريس مبدأ فصل السلطات مع تعاونها الذي تناولته المادة (50) من الدستور الكويتي، وهذا ما يتضمن أيضاً مجموع الحقوق والحريات التي كفلها الدستور في بابه الثالث والتي تسهم رعايتها في خلق بيئة مستقرة وجاذبة للاستثمار وفي تعزيز الثقة بالنظام القانوني للدولة، الأمر الذي يرتبط بلا شك في تعزيز دور القضاء كعنصر فاعل لتحقيق التنمية، حيث نصّت المادة (162) من الدستور الكويتي أن «شرف القضاء ونزاهته وعدالته ضمان لحقوق الأفراد وحرياتهم»، وأكدت المادة (163) على أن «لا سلطان لأي جهة على القضاة في قضائهم».

وفي السياق، تشكل الرقابة المالية والإدارية عنصراً أساسياً في ضمان الاستدامة الاقتصادية، وفي السياق تنص المادة (151) من الدستور على «أن ينشأ ديوان للمراقبة المالية يكفل القانون استقلاله، ليعاون الحكومة ومجلس الأمة في مراقبة تحصيل إيرادات الدولة وإنفاق مصروفاتها».

وهذا ما يوجب الإضاءة على أن الدور المحوري للأجهزة الرقابية يتجاوز مسألة قمع المخالفات والتشدد مع المخالفين، ليتكرّس من خلال عناصرها وأدواتها ركائز التنمية المستدامة، وفي مقدمتها تكريس الشفافية والنزاهة وتجنب الهدر المالي وضمان توجيه الأموال نحو مشاريع البنية التحتية والتنمية البشرية. * كاتب ومستشار قانوني