عاشت الكويت حقباً ومراحل عديدة كانت توضع فيها سياسات ونظم وإجراءات مرجعية محددة، ثم يأتي بعد فترة وجيزة مسؤول آخر أو وزير آخر، وربما رئيس وزراء آخر، ويقرر - بشكل مفاجئ ومن دون مقدمات ولا مبررات ولا دراسات - نسف تلك السياسات أو النظم أو الإجراءات على نحو مزاجي وبصورة مُربكة للأجهزة والمؤسسات، وتعريض مصالح البلد والناس لذلك الاضطراب المربك والتناقض المعيب!

فقد شهدنا في مجال التعليم أنه حُوّل إلى حقل تجارب، فقد كان التعليم العام يتبع نظام السنوات التقليدية بتشعيبها التقليدي (العلمي والأدبي)، ثم تمّ التحول إلى نظام الفصلين، مع إبقاء النظام التقليدي الأول، ومنه تم الانتقال إلى نظام المقررات، ثم العودة إلى نظام الفصلين، ثم تم تغيير سلّم التعليم من أربع سنوات لكل مرحلة إلى خمس وأربع وثلاث، وكل ذلك كان في معظمه ارتجالاً وقراراً شخصياً للوزير أو المسؤولين العاملين معه.

Ad

وقد شهد النظام الصحي تجارب مماثلة، ومثله نظام التقاعد والتأمينات، ووصل الأمر إلى قرارات وسياسات مجلس الوزراء، فالمنظور الإسكاني الذي تبنّاه المجلس في عهد الوزير الصبيح، تم إلغاؤه بعد أشهر، بعد تولي وزير آخر الحقيبة الوزارية، وخطة التنمية التي كان عنوانها أولوية القطاع الخاص، تم تغييرها في أشهر قليلة، لتكون الأولوية للقطاع العام، بل إن التنصيب القيادي للقياديين الذي أخذ مدى زمنياً لإقراره والعمل به، أُلغي بقرار مفاجئ بدخول وزير جديد أو وزيرين، وهكذا دواليك تتعاقب حالة الاضطراب والإرباك، بسبب عدم وجود مرجعية للسياسات العامة للدولة.

وهنا، أجد أن من الأمور الملحّة أن أناشد الدولة والحكومة أن تتوقف مليّاً أمام هذا الإرباك والغياب المزعج والمربك للسياسات والنظم الضابطة لها، خصوصاً في مرحلة تاريخية مهمة للدولة، بمرحلة الاستدامة والحوكمة والتحول الرقمي، فلا يجوز أن نستمر في الارتجال بسياسات إدارة الدولة.

وهنا، أيضاً، أجدني أمام دعم كامل لما قالته زميلتي إقبال الأحمد في مقالها المميز بشأن «وإذا راح فهد اليوسف!»، وهو تساؤل مشروع لأهمية وضرورة التحوّل للعمل المؤسسي لضمان الاستقرار والاستمرار، في ملفات وطنية ملحّة مثل الجنسية وتنقية ملفاتها، ومعالجة التركيبة السكانية، وملف المقيمين بصورة غير قانونية، وملف الفساد والجريمة المنظمة، وغيرها مثل التعليم والصحة والاقتصاد وكل شؤون الدولة.

وهنا مرّة ثالثة، أرى ضرورة إنشاء جهاز للسياسات العامة للدولة من رجالات أهل الكويت المشهود لهم، ليتكون من 9 منهم مثلاً، وتسند رئاسة جهاز السياسات لأهميته إلى سمو ولي العهد، لضمان استمرار رؤية القيادة السياسية وتوجهاتها في معيّة الأجهزة التنفيذية والمؤسسات الإدارية.

ولعل التوقيت اليوم مواتٍ لإصدار مرسوم بقانون من الحكومة بذلك الجهاز، خصوصاً أن أمام الكويت ملفات تمسّ كيانها ووجودها، فحتى لا تكون السياسات والإجراءات الحالية محلاً للنقض أو التعطيل أو التأويل، يكون جهاز السياسات هو المؤتمن على رعاية ذلك وإنفاذ رؤية القيادة السياسية والإدارة الحكومية وتوجهاتها لما فيه خير البلاد والعباد.

ألا هل بلّغت، اللهم فاشهد.