الأغلبية الصامتة: يد تغرد ويد تحمل السلاح
التكرار يصنع الألفة، والمعنى أن السلوك عندما يتكرر ويمارسه أكثرية أفراد المجتمع يصبح أمراً عادياً جداً ولا يجد من ينتقده، وتحضرني الكثير من الأمثلة لكني فضلت التوقف عند السلوكيات الحديثة التي تلخص الكثير من واقعنا وأزماتنا، وهي بالمناسبة أصبحت سلوكيات عالمية، الفارق فيها أن الدول المنضبطة قيدتها لتنقذ نفسها من الوقوع في بحر التوهان الرقمي.
منذ الصباح الباكر، تترنح مجموعة من السيارات على الطرقات المزدحمة لأن الكثير من السائقين يتابعون أهم المحتويات والقصص المثيرة على «التيك توك»، فريق يسير زاحفاً كالثعبان وفريق منطلق يحمل شعار «يد تغرد ويد تحمل السلاح»، عند الإشارة الحمراء يتلاشى الشعور بالملل، ويخيم الصمت داخل السيارة وخارجها، فالجميع غارق في تصفح محتويات صناع المحتوى المتطاير، وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ويا سبحان الله بعد أن كان صوت «الهرن» يسبق سطوع الإشارة الخضراء بخمس ثوان، خمدت رادارات اليقظة ولم نجد غير الجائع أو من تعاني زوجته آلام الطلق حريصا على «الضغطة» المبكرة.
في الأسواق في المجمعات في الممرات في كل مواطن الحركة والحياة، يسير الناس بعين ويد واحدة، ولو كان للقدمين فائدة في عملية التصفح والضغط لساروا بواحدة وخصصوا الثانية للعالم الافتراضي تدبك وتقفز وتركل، إنها حالة من الانعزال عن الحياة الحقيقية، بل هي حالة الهوس لضغط تلك الحياة وتمريرها إلى الحياة الثانية دون هدف واضح أو ثابت غير وهم الشهرة وإثبات الوجود.
ونأتي إلى السلوك الذي أصبح عادة مألوفة، وهي العبث بتلك الشاشات في مراكز العمل وخاصة في الدوائر الحكومية، قد يعتقد البعض أن هناك تمييزاً في درجات الانضباطية، فهي جميعها عندي سواء، مراكز استقبال المراجعين أو المكاتب المغلقة على الموظفين، المنافذ على اختلافها (برية وبحرية وجوية) والموظفون المعزولون في جزيرة، الآن استرجعوا ذكرياتكم أثناء إنجازكم لمعاملاتكم الورقية، ودققوا في حركات الموظف الجالس أمامكم، لقد أصبح من المألوف الحديث معه بحوار متقطع وهو يلعب بهاتفه، وأيضاً دققوا بمن يشتكي من هذا السلوك، هو نفسه يمارسه عندما يجلس في الجهة المقابلة ويستقبل المراجعين.
أخيراً هذه الحالة من التوهان الرقمي لها انعكاسات سلبية يومية على جودة العمل والإنجاز لأن تمدد ساعات التسلية الطويلة على ساعات العمل، ينمي الكسل المتفشي أصلا في الكثير من دوائر العمل الرسمية، فقد كان الوافد يسد الكثير من الثغرات، أما الآن ومع سياسة الإحلال أصبح اليوم الذي يمر دون وجود خطأ جسيم على أوراق رسمية معجزة بكل المقاييس.