أضاف الباحث «حمد عبدالمحسن الحمد» كتاباً جديداً إلى المكتبة الكويتية، وهو عن معاناة الكويتيين قبل النفط خلال «سنوات الغوص والسفر في الخليج العربي» كما أسمى الكتاب.

ورغم أن موضوع الكتاب ومكاره الغوص والسفر من المواضيع المدروسة، فإن اختيارات المؤلف للشخصيات والمقابلات ومحتويات الكتاب، كثيراً ما تجعلك مرة أخرى أمام قسوة مهنة الغوص، وشدة فقر كويت ما قبل النفط، ومدى اعتماد الحياة الاقتصادية آنذاك على البحر سفراً وغوصاً وصيداً.

Ad

التجارب والمقابلات التي يتناولها الكتاب حية ومفعمة بالمعاناة! وقد نتساءل: هل بقي حقاً الكثير للحديث بإثارة عن السفر والغوص، بعد كل هذه الكتب والمقالات والتغطيات الإعلامية على مدی سنين طويلة؟ والواقع كما برهن «حمد الحمد» أن الجواب بالإيجاب، بل لا تزال المشاعر التي تثيرها في نفسك عبارة «سنوات الغوص والسفر» قوية عندما تتصور معاناة وفقر تلك المرحلة وقلة الفرص المتاحة أمام الراغبين في العمل، فقد عرفت الشعوب وشرائحها الفقيرة في مختلف المجتمعات العديد من المهن الشاقة، لكنها لم تكن تهدد الحياة يومياً كالغوص.

الغواص الذي كان يكف عن التنفس كلما قفز إلى الماء، ويظل متحملاً الوضع الخانق مهما بذل من جهد أو عاين من أخطار أو حتى شعر بانقطاع النفس واقتراب الإغماء، وحتى لو سحب الغواص «حبل النجاة» الذي يمسك به زميل له فوق سطح السفينة، فقد تفشل المحاولة لأي سبب من الأسباب كالسهو والنسيان وارتخاء الحبل، ولكن لو سادت هذه المخاوف القلوب لما غاص أحد، وما امتلأت صناديق تجار اللؤلؤ بالدرر.

کتاب حمد الحمد، رغم صغر حجمه، 227 صفحة، ينجح في «لملمة» موضوع البحث، وفي اختیار نماذج معبرة من مقابلات البحارة والنواخذة والغواصين المنشورة في الصحافة الكويتية.

كان المرحوم «خليفة تركي الرشيد» الذي عاش في زمن الغوص ومارس المهنة، وكتب كشاهد عيان، ممن أوصل معاناة الغواصين إلى كل بيت وكل قارئ عام 1965 وما قبله، مسجلاً مذكراته في عدة كتيبات، ربما بلغت ستة أجزاء صغيرة، بعنوان «صرخة بين الماضي والحاضر»، أذكر أنني كنت أراها في أماكن لا حصر لها، ومعظم البيوت، يقول الباحث حمد الحمد، عن «خليفة الرشيد»، وهو بالمناسبة، يضيف الحمد، من عائلة المؤرخ المعروف «عبدالعزيز الرشيد» ما يلي: «خليفة تركي الرشيد من مواليد عام 1903م في حي شرق، في عهد الشيخ مبارك الصباح، لذا أطلق على نفسه لقب (بدوي شرق)، درس في المدرسة المباركية، وعمل بالتجارة، وركب مع السفن التجارية، ومارس مهنة الغوص، وكان خير شاهد على تلك الفترة، سكن منطقة الدسمة، وتوفي في 5 أبريل 1980م في المستشفى الأميري عن عمر ناهز 77 سنة، رحمه الله، وقد أفاض الباحث الأستاذ طلال الرميضي في سرد سيرة هذا الرجل في كتابه «شخصيات من تاريخ الكويت»، ط 2012». (سنوات الغوص والسفر ص 43).

يبدأ موسم الغوص كما نراه في البرامج التلفزيونية التراثية بالغناء والتصفيق وأغاني البحر وغيرها، أما كتاب «حمد الحمد» فيتحدث عن أشياء أخرى يقول: محذراً منبها القارئ، «الغوص ليس مهنة عادية، كما صورها البعض، إنما هي مهنة شاقة جداً، وليست نزهة بحرية، حيث يترك عائلته الكبيرة أربعة أشهر تحت رحمة الله ووطأة الفقر في ذلك الزمن»، ولكن يبقى للغناء والطبول مع ذلك دورها في بدء الموسم، كما يؤكد الشرح: «يبدأ موسم الغوص مع مباشرة أصحاب السفن للعمل، وذلك بزج سفن الغوص من اليابسة إلى البحر، وهنا تكون البداية، ويجري الأمر بطريقة شبه تعاونية، حيث يفزع أهل الكويت بعضهم لبعض، وتنحر الذبائح بهذه المناسبة، وعلى نغمات صوت النهام ودق الطبول والتصفيق تنزل السفينة إلى البحر.

بعد تلك البداية، يتوجه الجميع إلى بيت النوخذة صاحب السفينة، حيث يتم تناول وليمة من الذبائح التي نحرت، ثم يخرج الجميع والكل يسبّح بحمده، ويشكر النوخذة على كرمه.

بعد ذلك، ولمدة شهر، تبدأ خدمة يقوم بها «السيوب» ومفردها «سيب» (مهمته جر الغواص من البحر بالحبل)، وطبيعة العمل هو أن يتوجه «السيوب» جماعات في كل صباح إلى سفينتهم لمباشرة العمل، وأول عمل يفعلونه هو تغريق السفينة بعد أن يمتلئ جوفها بماء البحر، والهدف هو أن يتشرب جسد السفينة بالماء، ولكي تصطك ألواحها بعضها ببعض». (ص 44 - 46).

ومن تفاصيل مهنة الغوص إعداد السفينة وغسلها وتنظيفها، وبعد أيام من العمل المتواصل في الفحص والإعداد، يقدمون على البدء بدهان أعلى السفينة بدهان «الصِّل»، يقول الباحث «خالد عبدالقادر عبدالعزيز الرشيد» في شرح ماهية مادة الصل بأنها: «زيت السمك، يستخرج من سمك السردين، بأن يجمع السمك أكواماً ويوضع عليه الحصير ومن فوقه صخر، ويترك ليجف وينزل زيته، ويتجمع بمكان قد تم إعداده من قبل كحفرة أو ماعون مثلاً، ثم يؤخذ وتدهن به السفينة، ورائحته نفاذة وخبيثة لا تطاق، ومن وظيفته الحفاظ على مرونة الخشب من التشققات، ومنع تسرب مياه البحر للسفينة. وفي اللغة: الجلد المنتن في الدباغ، وبالضم: بقية الماء وغيره، والريح المنتنة». (الوافي، خالد الرشيد، 2024، ص455)، وبعد هذا التجهيز، تنقل إليها الأشرعة والحبال والأطعمة كالرز والتمر والقهوة ودهن من الشحم.

ومن الغاصة الذين يفرد لهم الكتاب عدة صفحات «ناصر سليمان السعيد»، الذي تحدث عام 1965 للصحافة عن مغادرته الجهرة كمزارع، للالتحاق بحياة البحر، ويشرح سبب ترك الزراعة في واحة الجهراء قائلاً: «لقد عملت في البحر لمدة 43 عاما، ومنذ أن كان عمري 13 سنة تركت مدينة الجهرة، حيث كانت لوالدي هناك مزرعة، وتركت المزرعة، فالعمل فيها غير مريح، والزراعة مردودها بسيط في ذلك الوقت، وكان والدي يزرع الجت ويبيعه بمبلغ زهيد جدا، وحتى ذلك المبلغ الزهيد كان يذهب للعمال الذين يعملون في المزرعة، وكذلك لتكاليف الزراعة الأخرى، ولا يبقى لنا شيء من مدخولها».

ويضيف: «لهذا لم يكن أمامي إلا الغوص والعمل به، حيث فضلته على غيره من أعمال، وكان عمري ثلاثة عشر عاما عندما صعدت لأول مرة على ظهر السفينة الذاهبة إلى الغوص». (ص 55-56)، فتأمل قسوة الحياة آنذاك، حيث يكون الغوص المهنة المختارة والمفضلة من شاب في الـ13 من عمره!

وأشارت المقابلة الصحافية التي اقتبسها كتاب الباحث «حمد الحمد»، إلى تفاصيل مهمة جداً في حياة السيد ناصر السعيد لا علاقة لها بالبحر، كحياته «الدراسية» والحروب والوقائع التي شارك فيها، والأعمال المدنية التي ساهم فيها، فيقول: «أنا درست لدى ملا كفيف البصر في الجهراء، ولم أتعلم سوى تلاوة القرآن وحفظه وبعضا من القراءة والكتابة، ولقد عشت أحداثا كبرى في الكويت، لقد اشتركت في وقعة «هدية ومزبور» و«حرب الجهرة» عام 1920م، وعملت في بناء سور الكويت السور الثالث، حيث اشترك ببنائه كل الكويتيين صغارا وكبارا، وكان البناء في شهر رمضان، حيث يصومون النهار ويبنون السور في الليل، حتى تم البناء خلال شهر واحد». (ص57).

ويروي الحمد حكاية غواص يدعى «عبدالرحمن بن ياقوت» كان بين القلة المحظوظة، حيث عثر على أكبر لؤلؤة، وبيعت بأربعين ألف روبية لأحد تجار البحرين، ويضيف النوخذة حسين ميعان الفودري، الذي ينقل عنه «الحمد»، أنه لم يكن آنذاك في الكويت من يقدر على شراء تلك اللؤلؤة، وكانت تسمى «دانة الياقوت». (ص66).

وكان بعض كبار تجار اللؤلؤ يسافرون إلى أوروبا، أوائل الثلاثينيات، كما يقول الباحث التراثي المعروف «محمد عبدالهادي جمال»، وذلك «للتعرف على وكلائهم هناك ومشاهدة السوق الأوروبي عن كثب، وكان أول من قام بتلك المهمة المرحوم علي بن حسين بن علي آل سيف الذي سافر إلى باريس عام 1930».

ويقول الباحث جمال «إن الطواويش كانوا يتجمعون في سوق البدر المقابل لمسجد السوق بعد انتهاء موسم الغوص لتبادل المعلومات ومعرفة أوضاع السوق وعقد الصفقات التجارية». (الحرف والمهن التجارية القديمة في الكويت، ص 106).

وقد يتساءل الواحد منا: لماذا استمر الإقبال على اللؤلؤ الطبيعي بهذه الأسعار المرتفعة، بل لماذا استمرت اقتصادات الغوص في المنطقة الخليجية وآسيا عموماً، إن كان الصينيون قد عرفوا زراعة اللؤلؤ في القرن 13، قبل سبعمائة سنة، حيث تقول الموسوعة البريطانية إن اليابانيين طوروا الوسيلة في أواخر القرن التاسع عشر على يد (ميكي موتو كوكيشي) عام 1890وما بعدها (Mikimot Kokichi).

(انظر: Ency clopaedia Britannica Micropaedia) المجلد السابع مادة Pearl، culture، P.821).)ولماذا استمرت تجارة اللؤلؤ «الطبيعي» في أوروبا والمنطقة الخليجية؟.

من المقابلات التي تستوقف القارئ في مقتبسات المؤلف في کتاب «سنوات الغوص والسفر»، مقابلة «مجلة الكويت»، 1974، قبل خمسين عاماً مع النوخذة الكبير يعقوب بشارة (1919-2020) الذي تحدث عن تعلمه القراءة والكتابة وحفظ القرآن والحساب قبل أن يدخل «المدرسة المباركية»، كان والد «عيسى» نوخذة معروف، فكان يطمح أن يسير على خطى والده، ففكر بدراسة اللغة الانكليزية كي يطلع على الكتب المتعلقة بهذا المجال، ويقول: «وبالفعل درست اللغة الانكليزية عند شخص اسمه المعلم «إسرائيل» يعمل عند السفير البريطاني وفي المستشفى الأمريكاني.. وما أذكره في تلك الفترة من حياتي هو غضب الناس مني، لأنني أتعلم اللغة الانكليزية، حتى جدي، رحمه الله، كان يثور علي ويضايقني بسبب دراستي للغة الانكليزية». (ص 76).

كان مدخل النوخذة «عيسى بشارة» لمعالم السفر البحري سفره إلى الهند- كراتشي وبومباي ومليبار- برفقه والده الذي كان يملك «البوم»، وعندما عاد كانت بانتظاره مأساة، حيث كانت الأمطار الغزيرة قد أدت إلى تهدم الكثير من البيوت سنة «الهدامة».

ويذكر من مآسى جزيرة «قيس» الخليجية من جهة بر فارس كادوا يموتون جوعاً لولا أن الله أرسلنا إليهم، فعندما وصل البوم إلى الجزيرة ونزل بعض البحارة بالقارب أو «الماشوّة» لإحضار الماء، فوجئوا بالأهالي يتجمهرون حولهم ! ويواصل النوخدة الحديث فيقول في حديث لا يكاد يُصدق بقدر ما هو مؤلم!: «وعرفت حينها ما وقع، ذلك أن البحارة عندما وصلوا إلى الجزيرة تجمهر حولهم الأهالي، كان الرجال عراة والنساء لا يكاد يسترهن شيء، ويبدو عليهم الهزال جميعا بعد أن افترسهم الجوع طوال أسابيع، وقد قام البحارة بنزع ملابسهم وإعطائها للنسوة ليسترن بها عريهن، وعندما نزلت بنفسي شاهدت المناظر التعسة، النساء وقد جفت أعوادهن من الجوع، والرجال وقد غارت عيونهم في محاجرها، وكانوا لا يكادون يقفون حتى يقعوا، وكانوا يعرضون أنفسهم للبيع، ويرجون أن يأخذ أحد أولادهم، ليعملوا عندهم كخدم مقابل الطعام».

كانت الدنيا فى حرب والجزر تزداد عزلة والاتصالات تنقطع، يقول «بشارة»: «لقد كانت رائحة الموت والجوع تفوح في هذه الجزيرة، وقد مضت فترة طويلة دون أن تسقط خلالها الأمطار، كما أن البحر لم تخرج منه سمكة واحدة، وكانت المواصلات مقطوعة بسبب الحرب، حتى الحشائش الخضراء لم تكن موجودة ليأكلوها، واضطررت إلى الاتفاق مع أحد الأشخاص المعروفين في الجزيرة واسمه إبراهيم محمد أحمد علي للذهاب إلى مدير الجمرك، لنطلب منه أن يسمح بإنزال 11 كيسا من الطحين لنوزعها على الأهالي من دون أن ندفع جمركا عليها، وقد وافق مدير الجمرك، وأنزلنا 11 كيسا وزعت بحضوري». (ص 82). وإن كانت ثمه بداية للعمل الخيري الكويتي فربما كانت هذه إحدى بداياتها في هذه الجزيرة!

وفي مكان آخر يروي النوخذة بشارة، أن أحد الأشخاص في تلك الجزيرة روى لي ما حصل له ولعائلته، حيث كان عندهم خصاف تمر من البصرة، وعندما خلص ظلوا يومين يضعون الخصاف في الماء المغلي ويشربونه هو وأمه وأخته، وقال هذا الشخص لنا إن كثيرا من أهل الجزيرة باعوا نساءهم وأبناءهم وبناتهم بلا مقابل لأهل السفن، لكي ينجوا من الجوع، وكانوا يتحايلون على أهل السفن ليأخذوهم كخدم عندهم بدون مقابل، حتى لا يموتوا من الجوع».

ولا أدري إن كان أحد الدارسين اهتم بتأثيرات الهند السياسية والاجتماعية على الكويت ومجتمعها، فالواضح أن التأثير كان كبيراً كما نرى في كل البحوث والكتابات وفي اللهجة الكويتية والمطبخ وغير ذلك. يقول النوخذة «عيسى بشارة» عن تأثره عما شاهد في تلك البلاد: «عندما وصلت إلى الهند اندهشت، لأنني رأيت عالما غير العالم الذي أعرفه، فالمياه لدينا يجلبها الكندر وشحيحة، لكن في الهند وجدته ينساب من الحنفيات، واندهشت كذلك من الفواكه الكثيرة والحدائق الخضراء والأسواق المتعددة والسيارات والعربات بالأحصنة، كل هذا شاهدته في الهند لأول مرة، ولم أكن قد رأيته من قبل في حياتي، وكم تمنيت ساعتها أن يكون عندنا في الكويت أشياء كهذه». (ص 77).

لقد درس مؤلف الكتاب اختيار المادة المعروضة بإتقان، ولا مجال لعرض حتى مختصرات لأحاديث النواخذة والغاصة ورجال البحر الآخرين الذين يزخر الكتاب بهم وبما جرى لهم، فنترك قراءتها لمن يقتني هذا السِّفر الممتع الذي ينقل القارئ إلى ماضي الكويت واقتصادها البحري وعطاء ذلك الجيل وشجاعته وآلامه.