عندما يكون للهدوء صوتٌ... غاندي
لطالما أدارت رأسي صورة الزعيم الهندي المهاتما غاندي، فأينما وجدت ذلك الآدمي الأصلع النحيل الملتحف بقماش أبيض الذي ترافق ملامحه على الدوام ابتسامة ساحرة خالية من معظم أسنانه ونظارة طبية مدورة متواضعة الصنع تعتلي أنفه المعقوف.
لا شيء يدعو للانبهار حقاً في شكل غاندي أو حتى هيئته علاوة على ذلك فإن الرجل على الصعيد العقائدي لا يدين بدين سماوي بل يعتنق ديانة وثنية، وبتعبير أدق يعبد البقر، إلا أن الأمور لا تؤخذ أبداً بظاهرها فقوة هذا النحيف كانت تنبع من الداخل، حيث استطاع بفضلها أن يتسيد المشهد السياسي في الهند لإيمانه التام بحتمية الخلاف، ولكونه صاحب نزعة فلسفية إنسانية ساقته إلى اختلاق مسار مستقل اقترن باسمه الى الأبد وهو مبدأ اللاعنف.
اشتهر أبو الأمة بهدوئه الجم ونفسه الطويل في التعامل مع الأحداث والمعطيات، فالمتتبع لمقابلاته وخطبه يجده شخصاً لا يجيد الصراخ مطلقاً للتعبير عن رأيه ليضرب بهذا النهج نموذجاً متفرداً لمفهوم القيادة عبر التاريخ، وذلك في زمن كثر فيه الضجيج، فقد عاصر في حياته حروباً عالمية برز فيها قادة صموا آذان الناس بخطبهم التي عبروا من خلالها بالبشرية نحو الدمار، إلا أنه على خلاف الجميع استطاع بذكاء أن يطوع السلم ويستخدمه كقوة ضاربة لمناهضة الاستعمار.
ما لا يعرفه معظم الناس عن حياة غاندي المهنية أنه محامٍ درس القانون في المملكة المتحدة ومارس المهنة في الهند، ثم انتقل بعدها الى جنوب إفريقيا إلا أنه بعد عودته الى بلده تكونت في ذهنه فكرة مبتكرة لنبذ الإمبريالية، فاختار الدخول في حالة من السلام النفسي قادته الى اعتزال المدنية ولبس ثوب الزهد ليواصل بعدها الكشف عن ممارسات الإنكليز اللا إنسانية التي شهدها أثناء عمله، مما جعل الناس يتوافدون عليه وبهم انطلقت حملات المقاومة السلمية في وجه الاستعمار لاسترداد الحقوق ورفع الظلم والسعي لاستقلال درة التاج البريطاني، ولعل أشهر هذه الحملات على الإطلاق «مسيرة الملح» شملت هذه المظاهرات مداً وجزراً، فـتارة يسجن فيها غاندي ويقدم للمحاكمة كونه المحرض الرئيس على العصيان المدني مما يضطره أحياناً الى الإضراب عن الطعام احتجاجاً على قرارات الحكومة البريطانية وأعمال العنف الدائرة وتارة أخرى كانت السلطات تستجيب لمطالبه.
كل هذا كان يدور والعالم الغربي يتابع باهتمام شديد الزوبعة التي تحدث في القارة الهندية، حيث وصل الأمر بأن طالت عدوى الرجل شبه العاري الأقلام الأوروبية التي أضحت تنتصر للهند وتندد بسياسة المستعمر، وظل الوضع على هذه الحال حتى قررت بريطانيا العظمى دعوته شخصياً الى أراضيها لمناقشة ملف الاستقلال وترتيب انتقال السلطة إلا أن الثمن كان باهظاً جداً، فقد وصل البعبع الذي كان يحذر منه المهاتما على الدوام ألا وهو تقسيم الهند، وبالفعل تم ذلك عام 1947 وقطعت الهند من جزئها الشمالي الغربي لتغدو باكستان دولة للمسلمين فقط، الأمر الذي جر البلاد والعباد الى حرب أهلية أخرى بين الهندوس والمسلمين بلغ فيها الاحتقان أوجه حينما نجح أحدهم في الوصول إلى غاندي ليرديه صريعاً مضرجاً بدمائه عام 1948 لتنتهي بهذا الحدث المأساوي حكاية أسطورة فريدة من أساطير الهند بلد العجائب وليفنى مثال حي للمقاومة السلمية لايزال يضرب الى يومنا هذا.