دستور إنساني

لعل ما تتميز به التجربة الديموقراطية في الكويت، هي الدستور الكويتي، الذي كان عموده الفقري الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره، في بناء العهد الجديد، في مواجهة أكبر تحد واجه الرعيل الأول في المجلس التأسيسي، وهو السلطة في المجتمع القبلي، التي تتبلور في شخص واحد، أو مجموعة من الأشخاص، شيخ القبيلة وللقبيلة أفخاد، لكل فخذ منها شيخ أو زعيم الرهط أو التجمع أو ربّ العائلة.

Ad

فوضع الرعيل الأول دستوراً يجمع بين الناس جميعا في أسرة واحدة، معبرا في ذلك، عن حياة الناس في هذا البلد عبر القرون، وروح الأسرة التي تربط بينهم، منذ بدء المجتمع الكويتي في خيمة القرين دستورا إنسانيا، ينص على أن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية»، المادة (29)، وأن الأمة هي مصدر السلطات جميعاً، تكون ممارسة السيادة فيها على الوجه المبين.

السلطة التشريعية

وفي مقال سابق، وصفنا الحكم الديموقراطي في الكويت بأنه كالمثلث، الذي أحد أضلاعه، الأمة مصدر السلطات جميعا، كما نصت على ذلك المادة (6) من الدستور، وهي سلطة منتخبة من هيئة الناخبين التي تعبر عن إرادة الأمة في اختيارها لنواب مجلس الأمة من خلال مبدأ الاقتراع العام، الذي لم تصل إليه البشرية إلا منذ قرنين، (مادة 80) وليمثل كل نائب من نوابها الأمة بأسرها (مادة 108)، ولا يعدو مجلس الأمة أن يكون فرعا من أصل الأمة التي تعتبر السلطة الدستورية الأعلى، لا يملك هذه السلطة بل يمارسها، وفقا للصالح العام للأمة بأسرها، لا وفقا لأهواء النواب ورغباتهم الخاصة.

الأمير راعي السلطات جميعا

والأمير فيما يمارسه من صلاحيات، بواسطة وزرائه، (مادة 55)، إنما يمارسها نيابة عن الأمة، في مثلث الديموقراطية، وذلك في حراسة الدستور والقيم العليا التي تقوم عليها الدولة والمجتمع الكويتي والتي جعلها الدستور، مقومات أساسية للمجتمع الكويتي، وهي العدل والحرية والمساواة، وأن التعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين (مادة 7)، وفي الحفاظ على كيان الدولة الاجتماعي ومقوماته الأساسية هي الملكية ورأس المال والعمل، وهو مقومات كذلك للثروة الوطنية، وهي جميعا حقوق فردية ذات وظيفة اجتماعية (مادة 16)، حارسا للأموال العامة، التي نص الدستور على حرمتها وجعل حمايتها واجبا على كل مواطن (مادة 17)، كما صان الدستور الملكية الخاصة (مادة 18).

وفي سياق هذه القيم العليا، لكيان الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يقول د. أحمد كمال أبو المجد «لا أحد بين الحكام والمحكومين يمكن أن تفوته القيمة الكبرى لحراسة الدستور وتوكيد سيادة القانون وارتفاع هامته فوق كل هامة».

السلطتان المدنية والدينية

وقد وضع دستور الكويت، بعد استقلالها، وبعد أربعة عقود، من سقوط الخلافة العثمانية، في عام 1922، بعد الحرب العالمية الثانية، وإرهاصات الدولة الإسلامية، لا تزال جزءا من الفكر السياسي في العالم العربي والإسلامي، وقد نشأت جماعة الإخوان الإسلامي في سنة 1922 بعد بضع سنوات من سقوط الخلافة الإسلامية، لتنادي بإعادة الدولة الإسلامية.

إلا أن الكويت، شأنها في ذلك، شأن الدولة العربية كافة، على مستوى القيادات السياسية العليا، وظهور نموذج عالمي للحكم الديموقراطي، القائم على السلطة المدنية، وحقوق الإنسان، والنموذج الذي لا يبعد عن الإسلام، بل ينص في المادة (2) على أن دين الدولة الإسلام، بعد أن نصت المادة الأولى أن الشعب الكويتي جزء من الأمة العربية، كما ذهبت المادة الثانية على أن دين الدولة الإسلام، كما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور امتثالا لقوله تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، استشراقا لمكانة من كرّمهم الله في كتابه العزيز بقوله «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» وتأسيا بسنة الرسول (ﷺ) في المشورة والعدل، ولمتابعة تراثنا الاسلامي في بناء المجتمع وإرساء قواعد الحكم،

وتستطرد المذكرة التفسيرية في تصويرها لنظام الحكم لصورة من صور تجديد الخطاب الديني بقولها: «وبرغبة واعية في الاستجابة لسنّة التطور والإفادة من مستحدثات الفكر الإنساني وعظات التجارب الدستورية في الدول الأخرى»، و«بهدي ذلك كله وبوحي هذه المعاني جميعا وضع دستور دولة الكويت».

الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع

من هنا جاءت نصوص الدستور لتنص في المادة الثانية على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، وجاءت النصوص بعد ذلك تترى بالقيم العليا في الإسلام، بالتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين (مادة 7)، والأسرة أساسها المجتمع، قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن (مادة 9)، وتكفل الدولة المعونة للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل (مادة 11) وتصون الدولة التراث الإسلامي والعربي وتسهم في ركب الحضارة الإنسانية (مادة 12) والميراث حق تحكمه الشريعة الإسلامية (مادة 18) وغير ذلك من نصوص وأحكام، هي جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية ومن التراث الإسلامي. إلا أن من الإنصاف أن نشهد للتيار الإسلامي في الكويت والذي كان يحتل في مقاعد البرلمان أكثر من ثلث عدد أعضاء مجلس الأمة، أنه كان بالرغم من مطالبته عشرات المرات بتعديل أحكام المادة الثانية من الدستور لتصبح الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، فإنه شارك في التجربة الديموقراطية، بحماس وفاعلية بما يواكب مستجدات العصر، ولم يستجب لنداء فضيلة الشيخ سيد الغباشي في مصر في بيانه تحت عنوان «الرأي السديد في أن دخول مجلس الأمة مناف للتوحيد».

ديموقراطية بلا أحزاب

وقد واجه الدستور الكويتي مشكلة التعددية السياسية في نظام الحكم الديموقراطي، والمتمثلة في الأحزاب السياسية، بمجموعة من الحريات التي كفلها، الحرية الشخصية (مادة 30) وحرية العقيدة (مادة 35) وحرية الرأي والبحث العلمي (مادة 36) وحرية الصحافة والطباعة والنشر (مادة 37) وحرية المراسلة البريدية والبرقية والهاتفية (مادة 39) وحرمة المسكن (مادة 38) وحرية العمل (المادتان 41 و42) وحق التملك (مادة 16) وصون الملكية الخاصة (مادة 18).

وفي سياق التعددية التي هي ركن جوهري في الحكم الديمقراطي، كما هي ركن أساسي في الشورى في الإسلام، مثل غيرها، من حريات وحقوق، كفلتها النصوص الدستورية المتقدمة.

حرية تكوين الجمعيات

وقد جاءت المادة (43) من الدستور التي تنص على «حرية تكوين الجمعيات والنقابات على أسس وطنية وبوسائل سلمية مكفولة». كما نصت المادة (44) من الدستور على أن «للأفراد حق الاجتماع دون حاجة إلى إذن أو إخطار سابق ولا يجوز لأحد من قوات الأمن حضور اجتماعاتهم الخاص والاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة وفقا للشروط والأوضاع التي يتبعها القانون، على أن تكون أغراض الاجتماع ووسائله سلمية ولا تنافي الآداب».

وننقل في تفسير هايتن المادتين، ما ورد في الأعمال التحضيرية، من مناقشات وتفسير للتعددية السياسية كما جاءت في انصوص المتقدمة.

وقد وجه شيخ البرلمانيين الراحل الدكتور أحمد الخطيب، تغمده الله بواسع رحمته، سؤالا إلى الخبير الدستوري، عما إذا كان القانون يسمح للمواطنين بالتعبير عن رأيهم في مسألة سياسية، أم أنه ليس لهم هذه الحرية السياسية، فأجابه الخبير بأن هذا الأمر تتيحه المادة (44) من الدستور، التي نصت على حق الأفراد في الاجتماع، أما أن يتحول ذلك إلى نشاط سياسي أو هيئة سياسية في صورة حزب فقد رأت لجنة الدستور أن الدولة ليست بحاجة الآن إلى تكوين أحزاب أو هيئات سياسية من هذا القبيل، وأن النص الدستوري يترك تكوين الأحزاب لمجلس الأمة من دون إلزام أو حظر، ليقرره بطريق التشريع العادي وحسب مصلحة البلد.

وعاد الدكتور أحمد الخطيب ليعيد صياغة سؤاله قائلاً «أرجو شطب كلمة أحزاب من الحديث، لأني لا أتحدث عن الأحزاب، فنحن نقصد التجمعات السياسية، فهل هذه المادة تنص عليها؟»، فعقب رئيس المجلس عبداللطيف محمد الثنيان الغانم على ذلك بقوله «الكويت لو فتحت الباب للأحزاب فمعناه أنها ستظل تسير إلى الوراء».

كما عقب الدكتور أحمد الخطيب بقوله «أنا لا أريد أن أتكلم عن الأحزاب السياسية أنا أتكلم عن الحرية السياسية التي نصت عليها ديباجة الدستور... فأين هي؟»، فأجاب الدكتور عثمان خليل بأن الدستور نص على حق المواطن في الانتخابات والترشيح والتعبير عن رأيه بحرية في المواد (44,37,36) كل هذه حقوق سياسية يتمتع بها المواطن، وهناك صورة أخرى لممارسة الحق السياسي وهي طريق الأحزاب، وانتفاء هذا الطريق ليس معناه انتفاء ممارسة المواطن لجميع الحقوق السياسية.

وعاد الدكتور أحمد الخطيب ليوجه السؤال التالي قائلا: هناك حريات عديدة في الدستور، مثلا أن أكتب ما أشاء وأقول ما أشاء، فهل الدستور يمنع تدخل الحكومة في الاجتماعات والمواكب السياسية؟ وهل يستطيع المواطن الكويتي أن يتمتع بحرية الرأي السياسي وحرية الصحافة والنشر وما إليها؟

فأجاب الدكتور الخبير: نعم كل هذه الحريات السياسية مقررة في الدستور وفقاً للقانون... ووافق المجلس التأسيسي بالإجماع على هذا التفسير المضبطة التاسعة عشرة لاجتماع المجلس المعقود بتاريخ (1962/9/11). (ص29-35).