في مشهدٍ مثير للإعجاب، شهدت الكويت مؤخراً مثالاً حيّاً على محاسبة التجاوزات الإدارية، حين اتخذ رئيس مجلس الوزراء بالإنابة وزير الدفاع وزير الداخلية موقفاً حازماً تجاه ضابط وعدد من العسكريين المتورطين في تلفيق تهم لشخصٍ بريء في قضية مخدرات. هذه الحادثة لم تكن مجرد إجراءٍ إداري، بل رسالة تحمل في طياتها ضرورة الوقوف بحزم أمام ما يُعرف بتغوّل الموظف العام. تغوّل الموظف العام هو ذلك السرطان الإداري الذي ينمو في الظلام، حيث يتضخم نفوذ بعض الموظفين الحكوميين، ويُساء استخدام الصلاحيات لتحقيق مصالح شخصية أو فرض سيطرة غير مبررة. هو انحرافٌ عن القيم الوظيفية، وتمردٌ على القوانين المكتوبة وغير المكتوبة التي تهدف إلى خدمة المواطن. هذه الظاهرة ليست مقتصرةً على درجةٍ وظيفيةٍ معينة، بل تمتد عبر السلم الإداري، بدءًا من موظف بسيط يعطّل معاملات الناس، وصولًا إلى مسؤولٍ كبير يستخدم نفوذه لتكريس المحسوبيات والوساطات.
إن تغوّل الموظف يظهر في سلوكيات متكررة يصعب تتبعها، كالتأخير المتعمد، والتعامل الانتقائي مع الطلبات، واستغلال النفوذ لتحقيق مكاسب ذاتية. هذه التصرفات تغرس بذور الظلم في المؤسسات، فتضعف ثقة المواطن في الأجهزة الحكومية، وتُعطّل عجلة التنمية. إن غياب الرقابة والمساءلة يُعد البيئة المثالية لنمو هذه الظاهرة. عندما يشعر الموظف بأنه محميٌ من المساءلة بفضل دعم مدير أو مسؤول نافذ، يصبح كأنه فوق القانون، يتحرك بلا خوفٍ من العقاب. هذا الشعور بالحصانة يؤدي إلى التمادي، حيث يُمارس التجاوز بطرقٍ ملتوية قد لا تكون واضحةً للعيان، لكنها تؤثر بعمقٍ في حياة المواطنين. تظهر هذه الإشكالية بوضوح في وزارة الصحة، حيث يعاني المواطنون من تفاوتٍ كبير في جودة الخدمات وسرعة تقديمها. غياب معايير قياس الأداء يُتيح المجال لانتشار المحسوبيات والوساطات، فيُصبح المواطن تحت رحمة مزاج الموظف أو علاقاته الشخصية، ويصبح الموظف أو الرئيس تحت رحمة مسؤوليه في غياب معايير التقييم ومؤشرات الأداء.
في وزارة الصحة، قد يستغرق إصدار ترخيصٍ طبي لمركزٍ خاص شهرين فقط، بينما قد يمتد الأمر لسنةٍ أو أكثر لمركزٍ آخر دون مبرر واضح سوى النفوذ والوساطة. هذه الفجوة الزمنية ليست مجرد رقم، بل هي انعكاسٌ لمنظومةٍ تعاني من خللٍ إداريٍ عميق، كما أن التفاوت في سرعة الحصول على مواعيد الفحوصات أو العمليات الجراحية يُعد مثالًا آخر على غياب العدالة، حيث يُفضل البعض على حساب آخرين دون معايير واضحة. في حالات أخرى، تظهر التمييزات في العقوبات، حيث يتم التعامل مع المخالفات في القطاع الخاص بسرعة وصرامة، بينما تمر نفس المخالفات في القطاع الحكومي دون أي إجراءات تأديبية. من المظاهر الأخرى، الطلب من المستوصفات الخاصة الحصول على شهادة الاعتراف الدولية لضمان الجودة، بينما لا يُطلب ذلك من المستوصفات الحكومية، مما يعكس عدم الاهتمام بجودة الخدمات في القطاع الحكومي، ويُضعف من ثقة المواطنين في تلك الخدمات.
عندما ننظر إلى التجارب الدولية الناجحة، نجد أن العديد من الدول واجهت هذه الظاهرة بأساليب مبتكرة وفعالة. على سبيل المثال، تبنّت دبي نظام مؤشرات الأداء الرقابية، حيث تُقيَّم الأقسام والموظفون بشكل دوري باستخدام أدوات تعتمد على التكنولوجيا الحديثة. هذه الأنظمة لا تعزز الشفافية فقط، بل تجعل من الصعب تجاهل التجاوزات، كما نجد في أوروبا أنظمة الشكاوى المفتوحة، حيث يُتاح للمواطن تقديم شكواه ضد أي موظف دون خوفٍ من التبعات. لجان مستقلة تُحقق في الشكاوى بعيدًا عن تأثير المسؤولين المباشرين، مما يضمن الحياد ويعزز الثقة بين المواطن والجهاز الإداري.
في الكويت، معالجة تغوّل الموظف العام تتطلب تطبيق الحوكمة الرشيدة، وهي منظومة ترتكز على الشفافية والمساءلة وتحديد معايير الأداء بوضوح. الرقابة الإلكترونية يجب أن تكون جزءًا أساسيًا من الاستراتيجية الوطنية، حيث تُتيح الأنظمة الرقمية متابعة دقيقة ومستدامة للأداء، مما يقلل من فرص التلاعب، كما أن إنشاء لجان رقابة مستقلة تحقق في الشكاوى وتراجع الأداء سيُسهم في تحقيق العدالة. هذه اللجان يجب أن تتمتع بالحيادية والصلاحيات الكاملة لمحاسبة المخطئين. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تطوير برامج تدريبية للموظفين تُعزز من قيم النزاهة والشفافية وتُركز على خدمة المواطن كأولوية.
مواجهة تغوّل الموظف العام ليست مجرد معركة إدارية، بل هي معركة قيم ومبادئ تُؤسس لبيئة تحفظ حقوق المواطنين وتُعزز من كفاءة المؤسسات. الخطوة الإيجابية التي قام بها نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية تُعد بداية واعدة، لكنها تحتاج إلى تعميم واستدامة في جميع القطاعات، وخاصةً في وزارة الصحة. إننا بحاجة إلى رؤية إصلاحية شاملة تضع المواطن في قلب العملية الإدارية، وتُرسخ مبادئ الشفافية والمساءلة كركائز أساسية للعمل الحكومي. وحدها العدالة قادرة على بناء ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، ووحدها الرقابة المستقلة قادرة على تحقيق هذه العدالة.
* وزير الصحة الأسبق