تمطر السماء ماء مع تغير الفصول، أو هذا ما اعتدناه منذ صغرنا رغم أن طقس الخليج لم يعد يسمح حتى بالمطر إلا بضع سويعات أو في المقابل تأتي السيول لتجرف الأرض وما عليها، لا حل وسطا ولا مطر بذرات خفيفة ما يلبث أن يغسل الشجر والحجر وحتى القلوب المتعبة من أزمان الجفاف التي طالت.

ننتظر المطر سنين، أما خلال هذا العام فأصبح الدعاء «اللهم أبعد عنهم الأمطار والعواصف»، فيكيفهم ما هم فيه من قتل وذبح وتشريد، لسنة ونحن نراقب الجو خوفا عليهم من أن تتكالب الطبيعة فتقف مع مجرمي الحرب الصهاينة وهم ينفذون حرب إبادتهم المستمرة على كل فلسطين وكل لبنان والقادم أكثر رعبا.

Ad

هذا الشتاء يتسلل ببطء ليكسر أشهراً من قيظ، فتعود النوارس وتفتح النوافذ تدريجيا بعد «الحشرة» في الأماكن المغلقة والمكيفة، ويفرح الكثيرون بعودته، أي الشتاء، ولو لفترة قصيرة، لكننا منذ عام نخاف من الشتاء أن يغرق خيمة وتتحول الشوارع الرملية الى طين، ويصبح العيش الصعب جحيما على جحيم في شوارع غزة والضفة وجنوب لبنان والضاحية، بل كل فلسطين وكل لبنان، حيث ينتشر النازحون بمئات الآلاف، بل فاق عددهم المليون.

نخاف من قطرة المطر على خيمة النزوح العاشرة بعد المئة، كم خيمة نزح لها الفلسطيني قبل أن يستقر في شقة بشمال غزة ليست بعيدة عن بحرها، تصور هو أنها ستكون مسكنه لسنين قادمة، وبقي قابضا على مفتاح بيته في يافا وعكا وحيفا لأنه يعرف أنه عائدٌ لها يوما هو أو أبناؤه وبناته فيلعبون تحت شجرة التين تلك في حديقة المنزل، حيث كانت جلسات المساء في استقبال الجيران والأصدقاء.

كم هو حنين جارف لتلك المنازل التي هُجّروا منها قسراً فأصبحت بيتاً لمستوطن لا يعرف من الحياة سوى قتل الفلسطيني، بل العربي، ولم يتعلم فنّ الحياة التي أتقنها الفلسطينيون حتى بعد التهجير والنزوح لمرة ومرات، بل عشرات منها، ألم تصلكم صور المعلمة في خيمة والأطفال يصغون لها بكل جوارحهم رغم بردهم وجوعهم، ثم يقومون في الاستراحة ليغنوا ويرقصوا على أنغام موسيقاهم وأغانيهم المغمسة بحب فلسطين، كيف يقال لمثل هؤلاء الأطفال، بل لهذا الشعب إنه لا يحب الحياة؟ كما قيل عمن وقفوا عند حدود فلسطين الشمالية في جنوب لبنان وهم يبعثون برسائل الأمل والتضامن هم الآخرون يحبون الحياة أيضا، وليسوا كما يقول بعضهم على تلك المحطات ومواقع التواصل إنهم «أهل موت»!!!!

من يغرس الزيتون وينتظر سنين ليقطف الثمار هو من يعرف معنى الحياة، من يصنع منه ومن الزعتر وجبة تحولت الى العالمية هو أيضا من يعرف معنى الحياة، وتلك الأم أو الجدة التي تطرز ثوبها بألوان وتصاميم تختلف من بلدة لأخرى، وتبقي الثوب خلف الثوب لتتوارثه الأجيال ويصبح زياً لكل محبي الحرية والعدالة والكرامة في العالم، هي الأخرى من تعرف معنى الحياة وتحبها.

من تمسح دمعها وتمضي بعد أن دفنت أبناءها الأربعة لتقول «فدى فلسطين» أو «فدى لبنان وطني» هي الأخرى تعشق الحياة، وتعرف كيف تعض على وجعها حتى تعود لتضع المفتاح في ثقب باب البيت وتدخل لتحدث الجدران عن قصص هنا وهناك، فتلك الحيطان ليست صماء، بل هي سجلت وخزنت حكايات وروايات ونقاشات وموسيقى وأغاني وبكاء أيضا، الحيطان التي لم تتقبل سكانها المغتصبين هي الأخرى ستفرح بعودة الحياة لمنازل بغرف متعددة لكل منها صورة ورواية.

يأتي الشتاء وقد يصاحبه مطر وبرق ورعد رغم أن أصوات طائراتهم قد ضجت فوق رؤوسهم لأشهر وأشهر فيبدو الرعد أكثر رحمة من جنود وطياري الإبادة والتطهير العرقي أولئك المرضى بالدم والعنف، حتى أن مدن الكون وأرض الله الواسعة لفظتهم، ألم يقل في كتابه «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ»؟ هم بل أنتم أهلنا في فلسطين ولبنان وكل المقاومين أنتم عباده الصالحون، وأنتم من ستبقون على الأرض رغم مطر الوجع المستمر الذي تعيشونه ونعيشه معكم رغم عجزنا.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية