أعادت الانتخابات الرئاسية الأميركية التركيز على الدور المحوري الذي تؤديه جماعات الضغط (اللوبيات) في توجيه القرار السياسي والتوجه الانتخابي في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تعمل مجموعات المصالح على الضغط والتأثير بما يخدم أهدافها.
«اللوبيات» من حيث المبدأ هي قانونية ومشروعة، حيث تستند إلى حق التعبير والتنظيم الذي يضمنه الدستور الأميركي، إذ يمكن للأفراد والمنظمات التجمع والعمل معاً لدعم قضاياهم، مما يجعل الولايات المتحدة واحدة من الدول التي تمنح جماعات المصالح مجالاً واسعاً للعمل والنفوذ السياسي.
أصول «اللوبي» وتنظيمه القانوني في أميركا
تعود جذور فكرة «اللوبي» إلى القرن التاسع عشر، إلا أن تأثيره الفعلي بدأ يتصاعد خلال القرن العشرين، وخصوصاً مع نمو الشركات الكبرى وظهور النقابات والجماعات المؤثرة اقتصاديًا، وقد نظمت هذه النشاطات قانونيًا منذ صدور «قانون تسجيل اللوبيات» (Lobbying Disclosure Act) عام 1946، الذي يلزم «اللوبيات» بالإفصاح عن أنشطتها وتمويلها لضمان الشفافية، الأمر الذي تم التركيز عليه تشدداً من خلال إقرار التعديلات على القانون المذكور في عام 1995 لمواكبة تصاعد نفوذ جماعات الضغط وحتمية وجود متطلبات أعلى للشفافية، بما يضمن تقديم تقارير دورية تتضمن المصروفات والجهات المستفيدة والممولة.
تُشرف وزارة العدل ولجنة الانتخابات الفدرالية على أنشطة «اللوبيات» لضمان التزامها بالقانون، حيث تراقب هذه الجهات الميزانيات والأنشطة التي تقوم بها جماعات الضغط، لضمان النزاهة في العمليات الانتخابية والقرارات السياسية ولحماية النظام الديموقراطي من إساءة استخدام النفوذ المالي.
تأثير «اللوبي» اليهودي في السياسة الأميركية
يُعدّ «اللوبي» اليهودي أحد أبرز جماعات الضغط وأكثرها تأثيراً في السياسة الأميركية، حيث تبرز لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية AIPAC كإحدى أقوى منظمات الضغط في أميركا، وهي تأسست في خمسينيات القرن العشرين بهدف تعزيز العلاقات الأميركية الإسرائيلية، ونجحت منذ ذلك الحين في تحقيق أهدافها عبر تأثيرها القوي على السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
تركز اللجنة المذكورة على تأمين دعم الحزبين الرئيسين، الجمهوري والديموقراطي، لضمان استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتقوم من أجل ذلك بتمويل عدد مؤثر من الحملات الانتخابية وتوفير الدعم للمرشحين الذين يتبنون مواقف متعاطفة مع إسرائيل.
اضافة الى ذلك، يعتمد «اللوبي» اليهودي في تأثيره على آليات متنوعة تشمل الضغط المباشر على أعضاء الكونغرس، وتنظيم حملات ترويجية داخل الولايات المتحدة لتعزيز صورة إسرائيل وخلق قاعدة تأييد واسعة لها، كما تعمل جماعات الضغط اليهودية على إنتاج تقارير ودراسات يتم عرضها على لجان مختصة داخل الكونغرس، ويجري تمويلها من أفراد وشركات داعمة لإسرائيل، لضمان نقل المعلومات وصياغة التصورات التي تدعم موقفها الاستراتيجي.
وبالإضافة إلى ذلك، ينظم «اللوبي» اليهودي فعاليات سنوية كبرى، يستضيف فيها سياسيين بارزين من كلا الحزبين، مما يوفر لأعضاء الكونغرس فرصاً للتواصل المباشر مع الناخبين الموالين لإسرائيل، ويوفر للناخبين اليهود وسيلة للتعبير عن توقعاتهم للسياسة الأميركية.
«اللوبيات» العربية والإسلامية في الولايات المتحدة
على الرغم من أن «اللوبيات» اليهودية تُعد من بين الأقدم والأكثر تنظيماً، فإن السنوات الأخيرة شهدت تنامياً لنشاط جماعات الضغط العربية والإسلامية، ومن أبرزها مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية «CAIR» واللجنة العربية الأميركية لمكافحة التمييز «ADC»، اللذان يعملان على الدفاع عن حقوق العرب والمسلمين في أميركا، وتعزيز صورتهم الإيجابية لدى الشعب الأميركي، ومحاولة التأثير على السياسة الأميركية الخارجية بما يخدم القضايا العربية، ومحاربة الإسلاموفوبيا، وتعزيز حقوق العرب والمسلمين في مجالات التعليم والعمل، اضافة الى تزويد صانعي القرار السياسي وأعضاء الكونغرس بمعلومات دقيقة حول قضايا معينة تتعلق باحترام حقوق الإنسان والحرية المدنية للعرب في أميركا. وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها «اللوبيات» العربية والإسلامية، فإن نفوذها في السياسة الأميركية ما زال محدوداً مقارنةً بـ«اللوبي» اليهودي، ويعود ذلك إلى عدة عوامل، منها: عدم توحّد الصوت العربي والإسلامي على كثير من القضايا الرئيسة، وضعف التمويل، وضعف الارتباط الوثيق بالقوى الاقتصادية والسياسية المؤثرة في الولايات المتحدة على عكس «اللوبي» اليهودي الذي يتمتع بحضور مؤثر وخبرة طويلة في إدارة حملات الدعم السياسي.
التحديات والمخاوف من تأثير «اللوبيات» على الديموقراطية
رغم أن «اللوبيات» تُعدّ جزءاً من النظام الديموقراطي في الولايات المتحدة وإحدى مظاهر حرية التنظيم والتعبير، فإن لها تأثيرات سلبية قد تقوض الديموقراطية نفسها، مما يثير المخاوف المتعلقة بعدة تحديات رئيسة، أبرزها تأثيرها على استقلالية السياسيين، فعندما يعتمد السياسيون بشكل كبير على دعم «اللوبيات»، قد يتعرضون لضغوط تؤثر على قراراتهم، مما يجعلهم ينحازون إلى مصالح جماعات الضغط هذه على حساب المصلحة العامة، وتغليب توجهات فئة معينة على حساب المواطنين العاديين.
كما تساهم هذه «اللوبيات» في تعزيز الفساد السياسي، حيث يمكن أن تُستخدم الأموال والموارد لتوجيه السياسات نحو مصالح خاصة على حساب المصلحة العامة، وهو ما يعمّق الفجوات الاجتماعية ويضعف نزاهة النظام السياسي. من جانب آخر، يؤدي الاعتماد السياسي على «اللوبيات» الى تعزيز المخاوف من أن السياسة الخارجية قد تُدار بناءً على مصالح خاصة تتعارض مع القيم الأميركية أو القضايا المحلية التي تهم الشعب الأميركي بشكل مباشر، ومن الملاحظ في هذا الإطار أن بعض جماعات الضغط، مثل «اللوبي» اليهودي، تدفع بقوة من أجل مصالح دول أو قضايا خارجية، كما هي الحال مع السياسات المؤيدة لإسرائيل، مما يتناقض بالطبع مع مفهوم السيادة الوطنية وقد يتعارض مع المصالح الوطنية الأميركية في بعض الحالات.
من جهة أخرى، تساهم «اللوبيات» في تعزيز التفاوت في التمثيل السياسي، حيث تستفيد مجموعات معينة، خاصة الشركات الكبرى أو جماعات الضغط المدعومة بموارد ضخمة، من قدرة أكبر على التأثير في السياسات، وهذا يؤدي إلى إضعاف تمثيل المواطنين العاديين، مما يجعل الديموقراطية غير متوازنة.
إزاء هذه المخاوف، تتزايد الدعوات للإصلاح، مثل تقنين التبرعات السياسية، وتعزيز الشفافية في عمل جماعات الضغط، وتنظيم التمويل الانتخابي بشكل يحد من تأثير المال على السياسة، ومع ذلك، يواجه هذا النهج الإصلاحي مقاومة كبيرة من الجهات المستفيدة من الوضع القائم.
* كاتب ومستشار قانوني.