فتحت الأرقام المتصاعدة التي رفعتها اللجنة العليا لتحقيق الجنسية الكويتية الى مجلس الوزراء تمهيدا لسحب او فقد نحو 3565 الجنسية منذ شهر اغسطس الماضي الباب لمجموعة من التساؤلات عن التداعيات الاقتصادية التي يمكن تنشئها حالات السحب والفقد على القطاع المصرفي او التجاري او الخدمي، خصوصا من جهة تعثر آلاف الأفراد على نحو مفاجئ في سداد التزاماتهم تجاه البنوك او الايجارات او بنك الائتمان، فضلاً عن العلاقات التجارية بين الشركاء اذا سحبت او فقدت الجنسية من احدهم.
ولسنا في معرض النقاش حول مسألة الجنسية أو مفهوم تزويرها، أو حتى ما يتداول عن حصول غير المستحقين عليها، فهذا عمل جهات متخصصة في الدولة يفترض أن تقوم بعملها بشكل محترف، بحيث لا تسمح لأي نزعات عنصرية أو توجهات إقصائية ان تؤثر في عملها او أن تعرض النسيج الاجتماعي لضرر أعمق من الإصلاح المعلن في ملف الجنسية، بل إن الهدف هنا هو تسليط الضوء على أن سحب آلاف الجناسي من أفراد ليست عملية سياسية أو أمنية فقط، بل يترتب عليها العديد من الآثار والتداعيات.
فئات متعددة
وعلى ما يبدو، فإن التوجه إلى سحب أو فقد الجنسية الكويتية مفتوح على مصراعيه لفئات متعددة ممن يُعرفون بالمزوروين أو المزدوجين او المجنسين بغير حق حديثا، خصوصا من زوجات الكويتيين أو أصحاب الأعمال الجليلة، ومع التحفّظ عن حقيقة جميع المصطلحات السابقة، فإننا أمام احتمالات سحب أو فقد لعشرات الآلاف من المواطنين الكويتيين خلال الأشهر القادمة، مما يستدعي التمهل والتريث في قراءة الآثار والتداعيات المرتبطة بالقرار، خصوصا أن فقدان أي شخص لجنسيته الكويتية سيترتب عليها زوال جميع المميزات والمستحقات والدعومات المرتبطة بالمواطنة، كالعمل، وبالتالي الراتب والسكن وحرية التجارة.
فمثلا عند وقف رواتب المسحوبة جنسياتهم، يبرز سؤال أساسي عن الأثر على القطاع المصرفي، نتيجة ارتفاع العدد المتوقع من المتعثرين الجدد عن سداد التزاماتهم تجاه البنوك! إذ يبلغ عدد المتعثرين عن السداد، حسب بيانات بنك الكويت المركزي حتى 30 يونيو 2023، نحو 2.3 بالمئة من إجمالي أعداد المقترضين، أي ما يعادل نحو 12.65 ألف مقترض، مما يعني انه وفق التوجهات الحالية في سحب الجنسية؛ سواء لمن تسحب جنسيته أو يفقدها، وبالتالي أبناؤه وأحفاده بالتبعية، فقد تتضاعف أرقام ونسب المتعثرين، وهنا تزداد الأسئلة عن مدى الضغوط على جودة أصول القطاع المصرفي ومستوى كفاءة تغطيته للقروض المتعثرة، مما يتطلب مخصصات مصرفية أكثر أو شطباً للديون التي لا يمكن استيفاؤها.
جهات وحقوق
وتمتد التساؤلات أكثر الى مؤسسات حكومية كبنك الائتمان وهيئة أسواق المال وصندوق المشروعات الصغيرة أو شبه حكومية؛ كالتأمينات الاجتماعية وشؤون القُصّر والأمانة العامة للأوقاف، وغيرها من المؤسسات لديها مئات الآلاف من المعاملات والتعاملات مع المواطنين من خلال الاقتراض والمعاشات وإدارة الأصول والأموال، وبالتالي ثمة علامات استفهام عديدة لم تكلف أي جهة رسمية منها ذات علاقة بالأوضاع المستجدة أن تبيّن آليات التعامل مع المسحوبة جنسياتهم، خصوصا أن الأمر مرتبط بقروض وأموال وأصول وحصص وملكيات متشابكة لا يمكن للدولة استيفاء حقوقها، ولا يجوز لها مصادرة أملاكهم.
مراكز قانونية
بل إن مسألة سحب الجنسية وتداعياتها تمتد الى تعطل العلاقات التجارية بين الشركاء وبعضها بمئات الملايين في البورصة والعقار، فضلا عن سوق الإيجارات أو رهن الأصول مثلا عند سحب الجنسية من أحدهم، وهو أمر يؤثر بدرجة معيّنة على بيئة الاستثمار في البلاد، إلا أن ما يؤثر عليها بدرجة أكبر هو المساس بالمراكز المستقرة لمن حصلوا على الجنسية الكويتية دون وجود دليل لدى مؤسسات الدولة حول التزوير أو الازدواجية، وهنا نتحدث عمَّن حصل عن الجنسية نتيجة مواد القانون التي تتيح التجنس وفق الخدمات الجليلة أو عبر الزواج من كويتي، وهي جنسيات صدرت بشكل رسمي دون بيانات مضللة، وبالتالي فإن رجعية العقوبة لأشخاص بالأصل غير مخالفين يعبّر عن مزاج سيئ في تطبيق القانون، ويقوض بالتأكيد بيئة الاستثمار التي تتعرض فيها المراكز والأوضاع القانونية للمواطنين الى التغير، وفقا لتوجهات الإدارة التنفيذية في كل فترة زمنية.
لا إيجابيات
ربما يقول البعض إن ثمة إيجابيات لسحب الجنسية، فهي تقلل من عدد المواطنين بما يخفض من تكاليف الرواتب والدعومات، فضلا عن أنها تسرّع توفر الخدمات للمواطنين، لا سيما الإسكان!
وفي الحقيقة، فإن هذه الفكرة غير دقيقة فهي من ناحية لا تنسجم مع تاريخ الانفلات المالي الذي شهدته البلاد خلال 25 سنة ماضية تضاعفت فيها مصروفات البلاد بأكثر من 8 مرات نتيجة سياسات مالية غير حصيفة هدفها التغطية على الإخفاق في تقديم الخدمات العامة، وعلى رأسها خدمات الرعاية السكنية، فضلا عن ضعف جودة الإنفاق على المشاريع والمناقصات العامة... فالانفلات المالي وسيلة حكومية لتعويض تراجع جودة الخدمات، ولا شأن للجنسية والمجنسين وأوضاعهما بأزمة تضخّم مصروفات الإدارة التنفيذية المزمنة.
تحميل المجتمع
غير أن أسوأ ما في هذه الفكرة أنها تحمّل المجتمع فاتورة إخفاق الإدارة العامة، وهي تفتح المجال لمزيد من الأفكار العنصرية تجاه تقليل عدد المواطنين للمعالجة المالية والخدمية أو تمايز الحقوق والواجبات حسب خلفياتهم الاجتماعية أو مواد الجنسية، وكأن الكويت تعاني انفجارا سكانيا يصعب التعامل معه وفق آليات منطقية تستخدمها العديد من الدول التي لديها عشرات الملايين من المواطنين، أو حتى انفلاتاً في تزوير المواطنة، وهي فرضيات تنفيها الأرقام الصادرة عن الهيئة العامة للمعلومات المدنية، والتي تشير الى أن النمو السكاني للمواطنين في الكويت متناقص خلال العقود الماضية منذ السنوات الخمس ما بعد التحرير من 3.67 بالمئة كنمو سنوي تراكمي الى 1.9 بالمئة خلال آخر 5 سنوات من 2019 - 2023، وهو أدنى معدل نمو سكاني في البلاد على الإطلاق.
الغريب أن يستخدم ملف الجنسية والمدة الطويلة المطلوبة لمعالجته حجةً لتعطيل إنجاز الملفات الخدمية العالقة؛ كالإسكان مثلا، أو عذراً لتأجيل استحقاقات الإصلاح الاقتصادي والمالية العامة كمعالجة اختلالات سوق العمل، بحيث يكون رهان السياسة العامة على خفض أعداد المواطنين لا تطوير الخدمات أو الاقتصاد أو بيئة الأعمال، وهو توجُّه على ما يبدو يتجاوز مجرد الفرضية، إلا أن الأغرب هو تعظيم أزمة البدون من خلال زيادة أعدادهم، وهي الأزمة التي فشلت مؤسسات الدولة المعنية في معالجتها لعقود متتالية.
ليس أمنياً
موضوع الجنسية ليس ملفا أمنيا فقط، بل له امتدادات عديدة اقتصادية ومالية على التعاملات والثقة والأمان والمراكز القانونية المستقرة التي تحتاج إلى معالجات محترفة، بحيث تفضي الى أضرار وعواقب لا تزيد المسألة تعقيدا، فالكويت لا تحتاج إلى أن تخلق لنفسها أزمات جديدة من العدم، فلديها ما يكفيها.