بالرغم من محنة الدستور في إساءة استخدام بعض النواب للحق الدستوري في استجواب رئيس مجلس الوزراء والوزراء والذي شرع في الدستور، كأرقى وسائل الرقابة البرلمانية وأهم أدواتها، من خلال استخدام البعض لهذا الحق في إطار من فن حافة الهاوية واستراتيجية التصادم، اللذين تناولناهما في مقالين سابقين في 10 و11 نوفمبر الجاري، وتناولنا المحنة ذاتها في مقالين متتابعين في 3 و4 من هذا الشهر.
لكن انبهاري بدستور الكويت وبالتجربة الديموقراطية للكويت منذ العمل بدستورها في 31/1/1962، والتي قضيت أغلب عمري المهني، أتابعها وأشيد بها في مجالسي الخاصة وعلى صفحات الصحف المصرية (الأهرام والأخبار) والصحف الكويتية (الوطن، والأنباء، والقبس، والجريدة التي أشرف بأننى أصحبت أحد كتابها، جعل الكثيرين من الذين يعتبرون الأحزاب، جوهر الحكم الديموقراطي، يطرحون عليّ سؤالا: هو كيف نجحت هذه التجربة دون قيام أحزاب؟
وهو سؤال مشروع، وكنت أجيبهم بالإجابة ذاتها التي أطرحها تفصيلا، في مقال اليوم من خلال تحديد المفهوم الصحيح للتعددية السياسية وفي عيون الرعيل الأول، سواء في المذكرة التفسيرية للدستور، أو فيما كان عليه حال الأحزاب في الوطن العربى، أو ما أصبح عليه حالها بعد استقلال أقطاره ومخاض الانقلابات العسكرية التي كثرت في الدول العربية بعد الاستقلال.
المفهوم الليبرالي للتعددية
التعددية السياسية وفقا لهذا المفهوم ليست حكرا على تعددية الأحزاب، لأن الأخيرة لا تعدو أن تكون فرعا من أصل هو المفهوم الليبرالي للتعددية، التي تتكون من الروابط السياسية وغير السياسية المتعددة، بمصالحها المشروعة المتفرقة، التي تحول دون تمركز الحكم أو الانفراد به لشخص أو فئة، وهو المفهوم الصحيح للتعددية الذي يساعد في تحقيق المشاركة العريضة للشعب في الحكم.
وقد جاء دستور الكويت ناصاً على أن الناس سواء في الكرامة الإنسانية، وليجعل من العدل والحرية والمساواة، المقومات الأساسية للمجتمع الكويتي والتعاون والتراحم صلة وثيقة بين المواطنين (مادة 7) أالزم الدول بصون هذه الدعامات وكفالة الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص للمواطنين (مادة 8).
وفي ظل هذه المبادئ، نمت وترعرعت التعددية السياسية في الكويت دون أحزاب، لتمارس الحريات جميعا، التي صانها وكفلها الدستور في المواد (30 و35 و36 و37 و38 و39 و80) وكفالة الدولة لحق الكويتيين في التعليم (مادة 40) وفي العمل وفي اختيار نوعه (مادة 41)، وجعل الدستور من الملكية ورأس المال والعمل مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعي، وللثروة الوطنية وهي جميعا حقوق فردية ذات وظيفة اجتماعية (مادة 16) وحرية تكوين الجمعيات (مادة 43)، وحق الاجتماع (مادة 44) وحق الاقتراع العام (المادة 80).
كل ذلك في ظل العمود الفقري، لهذا الدستور وهو وحدة الوطن واستقرار الحكم، وروح الأسرة التي تربط بين أبناء الوطن جميعا الذين هاجروا من شبه الجزيرة العربية والعراق، هربا من القلاقل في هذه البلاد وسعيا للأمان، منذ انشاء الدولة في خيمة القرين في سنة 1752، التي بايع فيها الناس أول حاكم من آل الصباح وهو الشيخ صباح بن جابر مؤسس الدولة.
من ثم كان قدر للكويت أن تكون نموذجا فريدا، لدستور يعتبر وثيقة إنسانية لحقوق الإنسان وأن يبتدع هذا الدستور طريقا وسطا بين النظامين البرلماني والرئاسي مع انعطاف أكبر نحو أولهما، مستبدلا بالمسؤولية النظامية للوزارة، مسؤولية فردية للوزراء، ليكون قدر الكويت أيضا أن تكون نموذجا فريدا آخر لتجربة ديموقراطية، تمارس في ظل تعددية سياسية نمت وترعرعت، خلال عمر هذه التجربة لأكثر من نصف قرن، في غياب الأحزاب، في ظل دستور، وضعه المجلس التأسيسي في سنة 1962 وهو المجلس الذي شكله أمير الكويت الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح، ليضع دستورا، وفقا لأحدث الاتجاهات الدستورية في دساتير العالم.
وقد تناوننا فيما تقدم من مقالات، لبعض هذه الحريات والحقوق وأشرنا لبعضها الآخر، حتى لا نغمط حقها، في تكوين التعددية السياسية وغير السياسية في البلاد، مرجئين تناول حق الاجتماع العام المنصوص عليه في المادة (44) وحق الاقتراع العام المنصوص عليه في المادة (80) الى المقال القادم بإذن الله بعد تناول الأحزاب في المذكرة التفسيرية وفي الوطن العربي.
الأحزاب بعيون المذكرة التفسيرية
وكان رئيس المجلس التأسيسى الراحل محمد الثنيان الغانم، قد قرر (أن الكويت لو فتحت الباب للأحزاب فمعناها أنها تتقدم الى الخلف)، أثناء المناقشات التي دارت في المجلس التأسيسي حول ما إذا كانت المادة (43) من الدستور فيما تنص عليه «من حرية تكوين الجمعيات والنقابات»، تشمل فيما تشمله من تجمعات سياسية ومنظمات المجتمع المدنى، الأحزاب، وقد تمخضت هذه المناقشات عن تفسير المادة (43) سالفة الذكر بأنها، لا تمنع من قيام أحزاب وإن لم تصرح بذلك، بل تركت الأمر إلى مجلس الأمة ليقرر قيامها عندما تتهيأ الظروف لذلك، وهو ما تناولناه تفصيلا في مقال الأحد الماضي تحت العنوان ذاته لمقال اليوم.
وقد أقر المجلس التأسيسي المذكرة التفسيرية هذا التفسير وقد جاء في المذكرة ما يلي:
«بأن الدستور (مع إقراره بفضائل النظام البرلماني) لم ينس عيوب هذا النظام التي كشفت عنها التجارب الديموقراطية، ولم تحجب عنه نظره ميزة الاستقرار التي يعتز بها النظام الرئاسي»، ثم استطردت، في بيان عيوب النظام البرلماني بقولها: «ولعل بيت الداء في علة النظام البرلماني في العالم يكمن في المسؤولية التضامنية أمام البرلمان، فهذه المسؤولية هي التي يخشى أن تجعل من الحكم هدفا لمعركة لا هوادة فيها بين الأحزاب، بل تجعل من هذا الهدف سببا ريئسا للانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك، وليس أخطر على سلامة الحكم الديموقراطي من أن يكون هذا الانحراف أساسا لبناء الأحزاب السياسية في الدولة بدلا من البرامج والمبادئ، وأن يكون الحكم غاية لا مجرد وسيلة لتحقيق حكم أسلم وحياة أفضل... ومن ثم ينفرط عقد التضامن الوزاري على صخرة المصالح الشخصية، كما تنشق الكتلة الشعبية داخل البرلمان وخارجه، بما يفقد المجالس النيابية قوتها والشعب وحدته».
الأحزاب في الوطن العربي
وكانت الاحزاب قد ألغيت في مصر، بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 ولم تنجح تجربتها في الوطن العربي بعد نضالها لتحرير بلدها من الاستعمار وتحقيق استقلالها، لعدم تطورها بعد الاستقلال على أساس البرامج والمبادئ، التي تنهض بها بلادها من خلال التنمية المستدامة لتلحق بركب التقدم في العالم كله، ولم تختلف برامجها ومبادئها المعلنة في نظمها الأساسية، فهي نسخ متكررة بما يجعل صراعها السياسي أجوفا غير مفهوم، حيث يتمخض هذا الصراع عن فتات من مقاعد في برلمانات بلادها، لا تغني ولا تسمن من جوع، بل إثباتا لوجودها، طبقا لقول مأثور «أنا أخالف إذا أنا موجود»، في الوقت الذي ينفق أعضاؤها الملايين للفوز بهذا الفتات، وتؤول هذه الملايين لخزانة الحزب المعارض الذي ينتمي اليه المرشح أو الى خزانة الحزب الحاكم، للإذن بقيام هذه الأحزاب بترشيح بعض أعضائها في الانتخابات البرلمانية، ومقابل ما يجنيه هؤلاء الأعضاء من تمثيلهم للأمة، واحتلالهم هذه المقاعد من مكاسب مادية تفوق بكثير هذه الملايين، في حصولهم على أراضي أو تسهيلات في المعاملات مع الدولة ومع بنوكها، وفي مقابل أيضا للحصانة البرلمانية التي يتمتعون بها، التي تحميهم من الملاحقة القضائية عن الجرائم التي يرتكونها، في حق المال العام، وكذلك تلك التي ترتكب في حق شعوبهم، كما أن للمال دوراً في التصويت في الانتخابات البرلمانية الأمر الذي أفسد الحياة السياسية، ومهد للتزاوج بين المال والسلطة.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.