تأجيل طرح برنامج الحكومة... ودعوة للتفاؤل
تأجيل طرح برنامج الحكومة يدعونا إلى التفاؤل بأن ثمة فكرًا جديدًا يقود البلاد. إن العهد الجديد في الكويت يمثل فرصة تاريخية فريدة لتطبيق ما يتمنى كل مسؤول أو وطني وإصلاحي، إذ يفتح الباب واسعًا أمام الإصلاح الجذري لمعالجة الملفات العالقة التي طال انتظار تحريكها، واستكمال بناء الدولة على أسس متينة تخدم مصلحة الوطن والمواطن. لقد كانت هذه القضايا، بسبب تعقيداتها وتشابكها، عصيّة على التحرك في الماضي، لكن في هذا العهد، الذي يتسم بالرغبة الحقيقية في الإصلاح والمواجهة، أصبح بالإمكان تجاوز العقبات والنهوض بالكويت مرة أخرى. لقد كانت سمة برامج الحكومة إنشائية وغير محددة أو ملزمة لعدم ترك مدخل للقلة من المتصيدين والمتربصين من نواب المجلس.
العمل الحكومي، كما ينبغي أن يكون، لا يقتصر على الجهود الروتينية التي تُبذل في الاجتماعات الوزارية أو ضمن الإطار التنفيذي لكل وزارة، بل يجب أن يكون منظومة متكاملة تتسم بالتنسيق والتكامل بين كل الأجهزة الحكومية، سواء على المستوى الأفقي بين الوزارات المختلفة أو على المستوى العمودي داخل كل وزارة وهيئة. هذا التنسيق يعزز قدرة الدولة على التعامل مع التحديات بكفاءة أعلى، ويحقق التطلعات الوطنية التي تنعكس على حياة المواطن اليومية.
التصور المطلوب يتطلب أن تقدم كل وزارة رؤية واضحة وشاملة حول مشروعاتها وأهدافها وبرامجها، بحيث تتضمن هذه الرؤية تحديد الأولويات الوطنية ومواجهة المشكلات الملحة بأسلوب عملي وفعّال. ينبغي أن تكون هذه التصورات مدعومة ببرامج زمنية دقيقة وآليات تنفيذ واضحة، مع تحديد العقبات التي قد تواجه التنفيذ، سواء كانت قانونية، أو مالية، أو فنية، واقتراح حلول مناسبة لمعالجتها. هنا، يجب أن يكون لكل وزير دور فاعل في الإشراف على إعداد هذه التصورات وتقديمها لمجلس الوزراء، مع التزام واضح بمراجعة الأداء بانتظام لضمان تحقيق النتائج المطلوبة. يجب أن نبتعد عن الطرح الإنشائي، مثال برنامج الصحة العام الماضي الزاخر بكلمات فضفاضة مثل تطوير وتقليص وزيادة وإنشاء مستوصف ولم يتطرق لأهم القضايا مثل مستشفيات الضمان وازدواجية تقديم الخدمة ووضع تأمين عافية وإعادة رسم النظام الصحي أسوةً بدول الخليج وإيقاف الهدر ووضع مؤشرات الأداء على رأس القائمة.
تنفيذ هذه التصورات يتطلب تشكيل فرق عمل متخصصة تضم أصحاب الكفاءات والخبرات، بعيداً عن الاعتبارات الوظيفية التقليدية. هذه الفرق، التي يجب أن تعمل تحت إشراف مباشر من الوزراء، ستكون مسؤولة عن وضع خطط تنفيذية واضحة تتسم بالمرونة والدقة، مع التركيز على إنجاز المهام في إطار زمني محدد. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن تقدم فرق العمل تقارير دورية إلى مجلس الوزراء تتضمن ما تم تحقيقه من إنجازات وما تواجهه من تحديات، ليتم اعتماد الخطوات القادمة بناءً على معطيات دقيقة وشاملة. وهنا لابد أن نؤكد أن ثمة فترة زمنية مرت على الكويت قلبت النظم والقواعد الإدارية في التعيينات رأساً على عقب، فتم تعيين أعداد كبيرة من المسؤولين غير المؤهلين لمناصبهم القيادية، وهم الآن عقبة كأداء في مسيرة التطوير لكي يحافظوا على مصالحهم ومكتسباتهم ولعدم قدرتهم الذهنية وخبراتهم الضحلة. وهنا نشير إلى الحكمة البالغة في التريث في تسكين المواقع القيادية، حيث تسعى الحكومة إلى إعادة النظر بتلك القيادات التي تشكلت بفعل المحسوبيات والتنفيع إبان فترة الانفلات الإداري السابقة.
القضايا الجوهرية التي تمس حياة المواطنين بشكل مباشر، مثل الصحة والتعليم والإسكان، يجب أن تكون في صدارة أولويات الحكومة. البدء بمعالجة هذه القضايا يعزز الثقة بين الحكومة والمواطنين، ويؤكد جديتها في تحقيق تطلعات الشعب ومعالجة همومه اليومية. تحسين جودة الخدمات، تسريع إجراءات المعاملات، والقضاء على البيروقراطية المعيقة هي خطوات ضرورية لإعادة بناء جسور الثقة بين الدولة والمجتمع.
من جهة أخرى، تؤدي وسائل الإعلام دوراً محورياً في تعزيز الشفافية وتهيئة الرأي العام لتقبّل توجهات الحكومة وخططها الإصلاحية. يجب أن تُدار وسائل الإعلام الوطنية بأسلوب مهني مدروس يُركز على تقديم الحقائق والمعلومات الدقيقة، بعيداً عن التهويل أو الإثارة غير المبررة. إشراك المواطن في فهم طبيعة المشكلات والتحديات والحلول المقترحة يعزز من شعوره بالمسؤولية ويجعل من الإعلام شريكاً حقيقياً في تحقيق الأهداف الوطنية. لا يكفي تنظيم زيارات ميدانية للمسؤولين والوزراء إلى المشاريع، وإنما لقاء أصحاب الرأي ومؤسسات المجتمع المدني بشكل أوضح وأكثر منهجية. هناك قصور في هذا الجانب، ومثال ذلك في الصحة عدم إشراك القطاع الخاص الصحي الواسع والجمعيات الطبية والتمريضية وغيرها في جلسات مهنية للمشاركة الإيجابية في صياغة النظام الصحي وبرامجه. لابد أن يحذو حذو وزير الداخلية الذي يجالس المواطنين من شمال الكويت إلى جنوبها بمختلف مستوياتهم.
ما نقدمه هنا ليس إلا رؤية عملية تهدف إلى مساعدة الحكومة في صياغة برنامج عمل متكامل يتسم بالوضوح والكفاءة والفاعلية. الابتعاد عن الحسابات السياسية الضيقة وتوحيد الجهود نحو تحقيق الأهداف الكبرى هي الضمانة الأهم لنجاح هذا البرنامج. إن هذه التصورات ليست إلا اجتهادات قابلة للتطوير والإثراء، وهي تهدف إلى إثارة النقاش وتحفيز التفكير للوصول إلى حلول عملية تسهم في تحقيق نهضة حقيقية لدولة الكويت.
هذا العهد الجديد يحمل آمالاً كبيرة، ومسؤولية تاريخية على عاتق كل مسؤول ووزير. العمل الجاد والمتفاني في هذا الوقت ليس مجرد واجب وطني، بل هو استثمار في مستقبل الكويت وأبنائها. إذا ما تم تبني هذه الرؤية وتطبيقها على أرض الواقع، فإن الكويت قادرة على أن تستعيد مكانتها الريادية بين الدول، وتحقق طموحات مواطنيها بأعلى مستويات الكفاءة والعدالة.
*وزير الصحة الأسبق