خطت العدالة الدولية خطوة تاريخية وجريئة في مسار تكريس المساءلة الجنائية عن ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من خلال إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق غالانت بعد أن وجد قضاة المحكمة بأن المذكورين مسؤولان عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية استناداً إلى التوصيف الجرمي الذي قدمه المدعي العام للمحكمة في شهر أبريل الفائت باستثناء جريمة الإبادة نتيجة عدم تمكن المحكمة من إثبات جميع عناصرها في تناقض على ما يبدو مع المسار المنظور حالياً أمام محكمة العدل الدولية بناءً على الدعوى المرفوعة من دولة جنوب إفريقيا.
وحددت الغرفة التمهيدية الأولى في المحكمة الجنائية الدولية الجرائم التي وجدت بأنها تشكل سبباً للاعتقاد بمسؤولية نتنياهو وغالانت عن ارتكابها تتمثل في: جريمة تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب، وجريمة تعمد إحداث معاناة شديدة وإلحاق أذى خطير بالجسم، وجريمة القتل العمد للمدنيين، وجريمة توجيه هجمات ضد المدنيين، والاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية.
كما اعتبرت أن القانون الواجب تطبيقه في هذه القضية هو قانون النزاعات المسلحة الدولية وقانون النزاعات المسلحة غير الدولية إلا أنها ارتأت أن تكون أوامر الاعتقال قد صدرت بحق نتنياهو وغالانت وفقاً لقانون النزاعات المسلحة الدولية فقط.
وجاء قرار الغرفة التمهيدية الأولى في المحكمة الجنائية الدولية بعد مخاض قانوني وسياسي داخل أروقة المحكمة وخارجها تمثل في التهديدات والضغوط على القضاة، وكان آخرها حملة الاتهامات الممنهجة التي تعرض لها مدعي عام المحكمة كريم خان بارتكابه جرائم جنسية تستدعي تنحيه من منصبه، كما شكلت المذكرة القانونية التي تقدمت بها بريطانيا بصفتها دولة صديقة للمحكمة، حيث طلبت من المحكمة عدم النظر في القضية تحت مبرر عدم صلاحيتها لذلك استناداً لاتفاقيات أوسلو، ثم تراجعت بريطانيا عن المذكرة بعد استلام حكومة حزب العمال للسلطة في صيف هذا العام، كما تم رفض مذكرة إسرائيل التي دفعت بعدم صلاحية المحكمة للنظر بالقضية، كل ذلك أدى الى إطالة أمد الإجراءات التمهيدية والتأخير المتعمد في صدور قرار الاعتقال لمدة سبعة شهور، على عكس القرار الصادر عن المحكمة بحق الرئيس الروسي بوتين والذي استغرق اتخاذه يوم واحد فقط.
لقد سعت العدالة الدولية منذ محاكمات نورنبرغ بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى تعزيز مفهوم عدم الإفلات من العقاب باعتباره أهم مبادئ العدالة الجنائية الدولية والذي أكدته الاتفاقيات والمعاهدات والصكوك الدولية المختلفة وجاء نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليتوج تلك الجهود الدولية.
ومع إصدار مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت من المحكمة الجنائية الدولية أثبتت المحكمة بطريقة مقبولة إلى حدً ما جديتها والتزامها في محاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الدولية الخطيرة بغض النظر عن جنسياتهم أو حصاناتهم الوظيفية، وبالتالي تجاوزها للاتهامات الدولية بالتسييس، وتأثير الدول الغربية عليها لتكون أداة لمعاقبة المتهمين من دول العالم الثالث وخاصة الدول الإفريقية.
إن جميع قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وقفت عاجزة أمام ما يرتكب يومياً من جرائم وفظائع في غزة ولبنان، وأثبتت الممارسة الدولية أن القانون الدولي هو أداة سياسية بيد الدول الغربية توظفها وتستخدمها طبقاً لمصالحها، وأن نظام الردع الدولي للجرائم الدولية ضعيف وقائم على آليات قضائية لا تستجيب للتحديات الدولية والانتهاكات الجسيمة، حيث اعتاد العالم خلال عقود على أن أفعال المسؤولين الإسرائيليين تتمتع بحصانة قضائية غير معلنة ومدعومة سياسياً وإعلامياً من قبل الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، وأن ارتكابهم للجرائم الخطيرة بقي خارج إطار الملاحقة القضائية الدولية مما كرس فكرة ازدواجية المعايير في العدالة الدولية التي دخلت مع أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت مرحلةً جديدةً تشكل نقطة تحول تاريخية قد تؤدي إلى مسار طويل وضروري لمثول مرتكبي الجرائم الخطيرة أمام المحكمة الجنائية الدولية، أو من خلال تفعيل الاختصاص القضائي العالمي للدول في ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية الخطيرة.
والعالم اليوم مطالب بشكل كبير بتفعيل العدالة الدولية وتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية وخاصةً في ظل وجود صعوبات قوية ومتعددة لا يمكن التغلب عليها كما يدلل عليه الواقع، يتمثل أهمها في رفض إسرائيل القرار أو حتى اعترافها بصلاحية المحكمة الجنائية الدولية في النظر بقضايا تتعلق بالمسؤولين الإسرائيليين، والرفض الأميركي المعلن والصارخ لقرار المحكمة، فضلاً عن عدم امتلاك القضاء الدولي حتى الآن أي وسائل تنفيذية لقراراته.
* أستاذ جامعي ومستشار قانوني- لندن