بين ضجيج الحروب وصخب المآسي، يبقى صوت فيروز نافذة الحلم الذي لا يعكر صفوه الا الاستيقاظ المرعب والمفاجئ على عصف انفجار مدوٍّ أو قرقعة واقع مرير!
اليوم، وقد بلغت «جارة القمر» التسعين من عمرها- الذي نرجوه مديداً- تتردد أغانيها في وجدان كل عربي ولبناني، كأنشودة آتية من عالم الأساطير تشغف القلب وتشغل العقل، وتزرع الأمل بالعيش في أوطان مستقرة وبيوت هانئة، وتعيد إحياء صورة «لبنان الأخضر» الذي كان يوماً واحة من جمال الطبيعة ومنبعاً للإشعاع الحضاري وموئلاً للإبداع الإنساني.
ففي حين يقف صوتها شاهدًا على حافة الحلم، يعيش وطننا العربي ويشهد لبنان سلسلة من كوابيس الحروب والانقسامات والمآسي والأزمات، مما يطرح التساؤل حول التناقض بين السكينة التي عشناها مع فيروز في بيت «الست الختيارة» وصخب الواقع المأساوي الذي نسأل معه كل لحظة وحين: «بحرب الكبار شو ذنب الطفولة، وشو ذنب الضحكات الخجولة!؟»
«زهرة المدائن» بين الحلم والخذلان
استطاعت فيروز، بصوتها السحابي، أن تتخطى كل الحدود التي فرقت البلدان والأوطان، وأن تتجاوز كل الأسوار التي أبعدت الإنسان عن أخيه الإنسان، فكانت كلمات أغانيها بحنو الأم الرؤوم على أولادها، وشكلت صرخاتها بالحب والغضب استفاقة قسرية لإنسانيتنا.
غنت «سفيرتنا الى النجوم» لمكّة و«أهلها الصيدا، والعيد يملأ أضلعها عيدا»، وأنشدت لفلسطين و«شوراعها العتيقة» وللقدس «زهرة المدائن»، ورنّمت «لمدينة الصلاة» بصوت يعبر المسافات وينفذ الى وجدان كل إنسان، فشعر العربي معها أن حلم «الأمة» واحد، وأن قضايانا المشتركة قادرة على جمعنا، لكن واقعنا أثبت العكس، وما جنته أيدينا وأيدي أصحاب قضايانا المحقّة من المحيط الى الخليج جعلنا رهينة الفتنة تلو الفتنة والانقسام الأشد مما سبقه!
فها هي غزّة تمحى، وها هي كنيسة القيامة تدنّس، وها هو المسجد الأقصى يحاصر، و«بيسان» المغتصبة سُلّمت فاستسلمت لشعورها بالخذلان والوحدة، رغم كل «الأجراس» التي قرعت و«المآذن» التي صدحت و«السيوف» التي أشهرت! سيبقى أمرها وأمرنا كذلك الى أن نؤمن ونصدّق أننا «راجعون» ونعمل معاً لنعبر «جسر العودة» بمجد وانتصار.
«بحبك يا لبنان»
«بحبك يا لبنان» ليست مجرد أغنية، إنها نشيد وطني وقصيدة عشق لوطن كان- ولا يزال في وجدان محبيّه والمؤمنين به- مرادفًا للجمال والحضارة والإبداع ورسالة للإنسانية، عبارة تغنّت بها فيروز بكل حب وإيمان، ورددها كل لبناني وعربي كما لو أنه يرى «بلاد الأرز» كما يجب أن تكون، لا كما أصبحت عليه.
تلك الكلمات التي طافت بنا في حب لبنان بـ«شمالو، وجنوبو، وسهولو»، وارتشفنا معها القهوة مقابل «وجه البحار العتيق» في بيروت، «وقرأت المجد» علينا في «علالي جبل صنين»، أخذتنا الى حافة «الوطن الحلم»، مطرح «ما بيوقف الزمان» ويتلاقى العشاق على «جسر اللوزية»، دون أن «يوعى الضمير» رغم صوت فيروز اللي «ضلّو طاير يزوبع بهالضماير»! فهل كتب على اللبناني أن يبقى غريباً في وطنه، وأقرب اليه خارجه؟ وهل كتب عليه أن ينام في أحسن أحواله «بليل وأوضة منسيّة!؟».
كيفك أنت، يا وطني؟
«كيفك إنت؟» يا وطني الحزين؟ وأنت «يا مينا الحبايب» يا بيروت؟ و«الشط اللي دايب»؟ و«النجمِة البَحْرِية العم تتمَرجَح عالْمَيِّة!؟»، وكيف «الليلكي وزهر المشمش ببعلبك»؟ و«زهرة الجنوب» الصغيرة التي جعلها الحاقدون «عصفورة البكي»!؟ وكيف حال «جبل عامل اللي حامل عا كتافو زيتون وسنابل»؟
كيف الأحلام بضيعتنا الصغيرة التي ما زال يراودها الحنين لرومانسية «الليل والقنديل» رغم هول انقطاع الكهرباء المتكرر في القرن الحادي والعشرين!؟ هل ما زال اسمك يا وطني محفوراً على «الحور العتيق» أم كتبناه جميعاً، أهل بيت وأصدقاء وجيران، على «رمل الطريق»!؟
هل ما زال الهوى «ينسّم على» مفرق الوادي، أم أن «الهوا» قد عصف من جديد لنضطر أن نردد مرعوبين: «رجعت الشتوية»، ولكن ليس بدفء لياليها وحميمية جلسات السمر حول مدافئها، ولكن برياحها العاتية و«ورقها الأصفر» المتساقط أطفالاً أبرياء هنا وهناك، وبالبرد الذي ينخر في عظام المشردين والمهجّرين قسراً من بيوتهم، حيث «رجعت العصفورة تعشش بالقرميد» ولم تلق مرحبّاً بها من كل «اللي راحوا»، بما فيهم تلك «السوسنة» التي «ما رجعت تزهر من جديد» ولا «أطفال المدارس» الذين اشتاقوا «للتلج وللعيد»!
لو «سألوني الناس» عنكما
صوتك يا فيروز أنشودة تقاوم النسيان، ووجهك يا لبنان جمال ينتفض على النكران والخذلان وعلى كل معاني الاندحار والانكسار، فلو «سألوني الناس» عنكما، لأجبت: أنكما تستحقان الحياة رغم كل ما تشعران به من وهن وعزلة وخيبة! أنتما «المنارة» في الشرق، وأنتما «النسيم اللي مارق عا أرض الغار»، أنتما «الحكاية الطويلة» التي لا تنتهي، و«جار الطفولة» الذي لا يزال عشقنا الأول له هو الحقيقي وربما الأخير... أنتما «ساعات الفرح القليلة» والباقية محفورة في الذاكرة ما دام في الحياة نبض وفي الذاكرة قبس وفي الضمير نَفَس... فكيف للمرء أن ينسى «حال الزيتون والصبي والصبية بفيّ الطاحون»؟ وكيف للبناني أن يتنكر لأن «اللوزة والأرض وسمانا... هو هني بلدنا وهوانا»؟
فابقِ يا فيروز احكيلي عن «زهر الأيام البخيلة» وابقَ يا لبنان «مرسال المراسيل» لكل ضيعة ومدينة وإنسان قريب أو بعيد، بالحب تارة، وبالعلم طوراً، وبالإشعاع دائماً.
في عيدها التسعين
تبقى فيروز رمزًا خالدًا للحب والحلم والحرية، صوتها يعبر الأزمنة ويبلسم المآسي ليحافظ على صورة لبنان الذي نريده: لبنان «فخر الدين» الإصرار والإعمار، ولبنان العنفوان في «جبال الصوان»، ورغم أن الحاضر يشهد على كوابيس تهدد حلمنا الرحباني، فإن «فيروزياتنا» الصباحية تجعلنا نصدق أن الفجر ممكن، وأن الأرزة تعيش في دواخلنا لا على غلاف جوازات السفر، وصوت فيروز هو القناعة الدائمة أن «نحنا والقمر جيران»، وأن الحلم أكبر من كل مأساة وكل عدوان وكل تخلٍّ وخذلان.* كاتب ومستشار قانوني