يزيد إعلان إغلاق السفارة الأميركية في كييف- وبعض سفارات الاتحاد الأوروبي أيضاً- خوفاً من الضربات الجوية الروسية، من أجواء الأزمة المتفاقمة بشأن أوكرانيا.
إذا قرر الكرملين استهداف السفارات الأجنبية في أوكرانيا عمداً، فسيكون ذلك انتهاكاً كبيراً للمحظورات التي تحمي المقرات الدبلوماسية حتى في زمن الحرب، لكن الحصانة الدبلوماسية ليست المحظور الوحيد الذي يمكن أن يسقط.
ما يؤثر بشكل مباشر وعلى نطاق أوسع هو قرار واشنطن إرسال ألغام مضادة للأفراد إلى أوكرانيا بهدف إبطاء التقدم الروسي البطيء، ولكن المستمر على طول الجبهة في شرق أوكرانيا.
إن أحد الأمور المشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا- إضافة إلى الصين والأنظمة «المنبوذة» في العالم مثل إيران، أو الدول التي لا تملك حكومات فاعلة مثل ليبيا- هو رفضها الانضمام إلى معاهدة حظر الألغام الأرضية المضادة للأفراد لعام 1997، التي تحظر استخدامها من قبل معظم دول العالم، بما في ذلك المملكة المتحدة وحلفاء أميركا الأوروبيين وحتى أوكرانيا نفسها.
وبالطبع، خرقت روسيا بدورها منع الاعتداء المعمول به منذ محاكمات نورمبرغ عام 1945 بغزوها لأوكرانيا في المقام الأول، ولكن إذا تراجعت كييف عن التزامها بمعاهدة حظر الألغام- متذرعة بالضرورة العسكرية- فسيكون ذلك مسماراً آخر في نعش المحاولات الحسنة النية للحد من أهوال الحرب. ما الميثاق التالي الذي سيسقط؟ كم من الوقت أمامنا قبل أن تصبح أسلحة الدمار الشامل من ضرورات ساحة المعركة التي تبررها الحالة الفعلية للحرب على الأرض؟
على الرغم من أن كييف تقول إنها لن تستخدم الألغام الأميركية المضادة للأفراد في المناطق الحضرية، فإن هذا يترك الكثير من المناطق الريفية الأوكرانية حقل ألغام محتمل، لماذا يعتقد زيلينسكي أن كسر الحظر المفروض عليها يستحق العناء؟
تواجه أوكرانيا نقصاً متزايداً في القوى البشرية، وتستخدم روسيا تفوقها العددي ليس لشن هجمات جماعية وانتحارية، بل لضرب العديد من النقاط على طول الجبهة في وقت واحد، ويعتقد الأوكرانيون أن هذه الألغام ستكون مفيدة لوقف التكتيك الروسي الحالي المتمثل في اكتساح القرى التي يستخدمها الأوكرانيون كنقاط حصينة.
ورغم أن الألغام المضادة للأفراد تُلحق إصابات مروعة بـ«الأهداف الرخوة»، الجنود والمركبات غير المدرعة، فإنها أيضاً تملأ ساحة المعركة بعد انتهاء الحرب بفترة طويلة، انظروا إلى الطابور الطويل من المدنيين مبتوري الأطراف من أفغانستان إلى إفريقيا كل يوم لمعرفة التكاليف الطويلة الأجل، ومع ذلك، قد تقول أوكرانيا إن خسارة الحرب ستكلف شعبها أكثر من ذلك.
«الضرورة لا تعرف الضوابط» هي حجة يمكن أن يستخدمها كل من الضحية والمعتدي، لم تكن روسيا تتردد أصلاً في فِعل ما تشاء حول أوكرانيا وعلى أرضها وفي سمائها، لكنها ستنتشي لانزلاق كييف عن المكانة الأخلاقية العالية لتبرير ما هو أسوأ.
وقد تكون الخطوة التالية هي تصعيد قصف العمق المدني واستخدام أسلحة أكثر تدميراً مثل الأسلحة الحرارية غير النووية (التي تكاد تكون مدمرة مثل الأسلحة النووية التكتيكية) إذ يسعى بوتين إلى تحطيم الروح المعنوية الأوكرانية قبل دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومع ذلك، لا تزال المواقف الفعلية لترامب تجاه الحرب غامضة.
فمن ناحية، انتقد دونالد ترامب الابن ومستشاره المرشح للأمن القومي، مايكل والتز، فريق جو بايدن لرفعه سقف المخاطرة مع روسيا من خلال السماح لكييف بضرب الأراضي الروسية باستخدام نظام «أتاكمس» ATACMS والسماح لها باستخدام الألغام الأميركية المضادة للأفراد، ويقولون إن الفريق المنتهية ولايته يريد تكبيل يدَي ترامب.
من ناحية أخرى، يعزو الرئيس زيلينسكي رفع البيت الأبيض القيود عن قواته إلى وصول ترامب الوشيك أكثر من مبادرة بايدن، لكن ربما يقول ذلك لأن وقت بايدن في السلطة يقترب من نهايته بسرعة، ورغم أن القرارات الأميركية في الأيام الأخيرة تبدو أنها تحول الحرب في أوكرانيا بوضوح أكثر من أي وقت مضى إلى حرب مفتوحة بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن هناك أطرافاً أخرى تُسهم في تصعيد الصراع.
فوجود الكوريين الشماليين على خط النار هو تصعيد واضح على الجبهة الأوكرانية، لكن له تداعيات على استقرار شرق آسيا على بُعد عشر مناطق زمنية، والأكثر إثارة للقلق هو استعداد الصين لاستخدام مواردها بطرق يمكن إنكارها في عمليات التخريب الروسية.
احتجاز الدنمارك سفينة مملوكة للصين (لكن بقيادة روسية) والمتهمة بقطع كابلات الإنترنت تحت بحر البلطيق يرفع درجة التوتر هناك إلى مستوى خطير، فالمضائق بين الدنمارك والسويد هي منافذ حيوية لروسيا إلى البحار الأوسع من موانئها، من سان بطرسبرغ إلى جيب كالينينغراد الواقع بين بولندا وليتوانيا، ويمكن للدنماركيين الادعاء بأن روسيا قامت بأعمال حربية في مياههم، ولكن بالنسبة إلى روسيا، فإن فقدان إمكانية الوصول إلى محيطات العالم سيكون ضربة قاسية لها.
ورغم أن أعمال التخريب الروسية يمكن أن تستفز الدنماركيين للمطالبة بحق الإيقاف والتفتيش- أو حتى إغلاق المضايق أمام حركة المرور الروسية تماماً- فإن مثل هذه الأعمال قد تدفع الدول الإسكندنافية الأعضاء في حلف الناتو إلى فتح جبهة اقتصادية مع الصين أيضاً، وسواء استُهدفت السفارات أم لا، فإن الكثير من الحواجز القانونية والأخلاقية التي تحد من فظائع الحرب تتهاوى في أوكرانيا، مما يجعل من الصعب على أي شخص أن يعتقد أن الصراع هناك على وشك أن يهدأ.
مهما كانت «سرية» خطة السلام التي يتحدث عنها ترامب أو ديناميكيات السياسة الداخلية في واشنطن، ناهيك عن مكائد الكرملين، فإن الحرب، كعادتها، قد اكتسبت ديناميكيتها التدميرية الخاصة.
* مارك ألموند