نحو ثلاثين عامًا فصلت بين دخول عرب الشام الأندلس وبين مَن سبقهم من العرب الفاتحين أو البلديين كما يسميهم الرواة، كانت هذه العقود الثلاثة جديرة بنظر البلديين أن تجعل لهم الأحقية والأولوية بكل المنافع في الأرض المفتوحة، وأن يروا الشاميين طارئين على البلاد، طامعين في خيراتها، وحديثي عهد بالتمدن والحضارة، مما جعل وجودهم عبئًا على البلاد والعباد، وإقصاءهم أولويةً واستحقاقًا لا بدّ منه.

في حين يرى الشاميون أنهم أصحاب الفضل في حفظ سلطان العرب في الأندلس، لأنهم قمعوا الثورات الأولى للبربر، ووطّدوا الحكم العربي فيها، وكانوا أُولي قوّة وبأس وعُدّة وعدد، لم ينغمسوا في ترف الحضارة، ولم يخلدوا إلى الراحة، فما زالوا أهل جَلَد وجِدّ، لا ترتاح خيولهم، ولا تغمد سيوفهم. وعلى أثر هذا التنافر والاسئثار والتعصب والاستنفار، اشتعلت الفتنة بالأندلس، فنشبت حروب إبادة وتطهير عرقي بين عربها، وأُهلكت زروع وأُفرغت ثغور، وهُجّرت البلدات والقُرى على خطوط التماس مع الإسبان، فلا تجد من يرابط ويقاوم هجمات الأعداء وغزواتهم، وتقلّصت حدود المسلمين في إسبانيا، بعد أن أمعن العرب في عصبيتهم وعودتهم إلى جاهليتهم، حتى باع المنتصر منهم أسيره المغلوب بقرد أو بكلب أسود، إمعاناً في الإهانة والحطّ، وتكريساً للفوقية وتأكيداً للنصر الفئوي، وقد استمرت الحروب القبلية الجاهلية في أوروبا حيناً من الدهر، مما أضعف سلطان العرب، وأغرى فيهم كلَّ طامح موتور، وطامع مسعور.

Ad

وبينما عرب إسبانيا في غيهم يعمهون، ثارت عليهم جموع البربر مرة أخرى، ومزّقتهم شذر مذر، فلم تفرّق بين شاميّهم وبلديّهم، ويين عدنانهم وقحطانهم، وأزاحت قبائل البربر العرب من قصورهم، ومزّقت ملكهم، وأصبحت الرياسة لهم، وغدوا سادة الأندلس وحكّامها، بعد أن خرّبوا قرطبة دار العلوم ومَعْقِل الخلفاء وعاصمة الفاتحين، وحرقوها بنار كأنها ما زالت تشتعل من هول ما حرقت من إرث وتراث.

لم ينل العرب في إسبانيا من عصبيتهم خيراً، ولم يميّز العدو بين قديمهم البالي وطارئهم اللافي، وحقَ عليهم ذلك، إذ لم يرفق بعضُهم ببعض، ولم يرعوا ما بينهم من وشائج وروابط، ولعل البربر بثورتهم الشهيرة، عالجوا إسبانيا من أمراض الجاهلية العربية، ليمتد عمر الإسلام فيها قرونًا أخرى، فيورث الله الأرض من عباده من يشاء، ويؤتي ملكه من يشاء.