إن المبالغة في تفسير قرار المحكمة الجنائية الدولية وتحميله أكبر من حجمه لن يقود إلى معرفة الأمور على حقيقتها، فقرارات هذه المحكمة غير مدعومة بقوة تنفيذية حتى في نطاق الـ114 دولة التي وقعت على ميثاقها، لكنه يبقى قراراً منطقياً صادراً من جهة قانونية تابعة للمنظومة العالمية نفسها، يثبت رسمياً وللحاضر والتاريخ أن الحرب على غزة ولبنان كانت جريمة حرب ارتكبها الجيش الصهيوني بقيادة نتنياهو ووزير دفاعه ومجلس الحرب الإسرائيلي ضد مدنيين عزل كانت ضحاياها غالبية من الأطفال والنساء والشيبة.

هذا القرار اعتراف صريح من جهة تنتمي إلى المنظومة نفسها التي ينتمي إليها المجرم بأن الجريمة التي يرتكبها أصبحت أكبر من القدرة على السكوت عنها، وإلا فإننا أمام تساؤل كبير: هل علمت المحكمة الجنائية الدولية للتو بجريمة الصهاينة المستمرة منذ أكثر من عام أم أن بعض الدوافع قد استجدت وأجبرت هذه الجهة وبعض الجهات الأخرى التي (تمون) عليها أن تتخذ جميعها هذا الموقف تجاه المجرمين؟

أن الجرائم التي يرتكبها الصهاينة في غزة ولبنان تتجاوز توصيف جريمة حرب إلى جرائم إبادة، وإلا ما الفرق بينها وبين ما ارتكبه الهوتو بحق التوتسي في رواندا في بداية تسعينيات القرن الماضي، فبعيداً عن القتال وجهاً لوجه مع مقاتلي حماس وحزب الله، مارس سلاح الجو عملية هولوكوست كبرى للحاضنة الشعبية لهما.
Ad


إذاً قرار المحكمة الجنائية يمكن أن نصفه بالمحاولة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن بدأت الأصوات الشعبية ترتفع بشدة من داخل مجتمعات العولمة التي يستظل الصهاينة بمظلتها، وبعد أن بدأ التأثير الثقافي للنظام للعالمي يتراجع بين مجتمعات الشرق الأوسط أمام هذه الاستباحة المتوحشة لحياة الإنسان وكرامته وحقه في العيش، وبعد أن بدأ السكوت الطويل عن هذه الجرائم يفرغ منظومة العولمة من تحالفاتها السياسية والتجارية مع دول المنطقة التي نفد صبرها الرسمي والشعبي، وبعد أن تم استهلاك كل الطرق والأكاذيب المستخدمة في شيطنة الضحايا وتبرئة المجرمين ولم يبق أمام هذه المنظومة إلا التخارج مع أشخاص أصبحوا عبئاً عليها.

ولذلك فإن التوجه لربط هذه الجرائم بأشخاص مثل نتنياهو وغالانت وغيرهما هو محاولة لتخليص منظومة الحكم في الدويلة الإسرائيلية محلياً وخارجياً من تبعات هذه الجرائم وربطها بأشخاص أصبح في حكم المؤكد انتهاء مستقبلهم السياسي، ولن يكون مستبعداً استمرار سيطرة اليمين على هذه المنظومة بحكم الظرف السياسي المحلي والإقليمي، خصوصا أن أشد المعارضين لنتنياهو في الكنيست والكابينيت والأقرب إلى رئاسة الحكومة القادمة هو المتطرف جادي إيزنكوت صاحب استراتيجية الضاحية عام 2006م والمعمول بها في هذه الحرب.

وبالتالي فإن قرار المحكمة الجنائية محاولة في دعم المعارضين لطريقة إدارة نتنياهو للحرب في التخلص منه ومن معاونيه من أجل حماية منظومة الحكم الصهيونية بشكلها وتوجهاتها وتحالفاتها وإرثها الدموي.