الخيال جريمة

نشر في 02-12-2024
آخر تحديث 01-12-2024 | 19:51
 حسن العيسى

اسكت، اصمت، لا تتحدث، لا تكتب، لا تفعل شيئاً دون أن يكون مصرحاً به من قبل. كل حرف، كل كلمة، كل عبارة تقولها أو تكتبها، ليس لك ولا لغيرك أن يفسرها حسب المنطق والعقل... لا تقل شيئاً، نحن من يفسر، نحن من يخلق المعنى كما نريد وحسب مصلحة النظام كما نقررها ونريدها.

«حارس سطح العالم» هو عنوان رواية بثينة العيسى، تغوص فيها عميقاً «بخيال» مبدع في عالم سجون الفكر، كلمة «خيال» هي من المحرمات في الرواية «... الإنسان الجديد بلا مخيلة، وبرغبات محدودة جداً... فكم يصعب على المرء ألا يحب الحكومة عندما يراها تسعى كل هذا السعي من أجل إسعاده. وفي آخر الأمر من هو ليخالف النظام...»، صحيح من يكون هذا الإنسان في عالم الرقابة والممنوع والسجون، هو مجرد رقم، صفر فكري على الشمال... دابة تأكل وتشرب، يأتمر بأوامر الحاكم الراعي الوالي الوالد.

رواية بثينة التي رشحتها مجلة التايم لتفوز بأفضل الروايات المترجمة في مسابقة أقيمت مؤخراً بمدينة نيويورك... تحكي عن واقع مفتش في دولة ما يتلقى دروسه في أصول الرقابة وقتل المعاني، هذه الدولة مجرد نموذج يتكرر بلا نهاية في العالم العربي ودول الأوتوقراطيات بكل مكان. المفتش هنا يتلقى تدريبه في مؤسسة الرقابة التي تعج بالأرانب وبرازها المتناثر في كل مكان، أول درس يجب أن يتعلمه مفتش النصوص هو ألا يفسر ولا يؤول النص، بل يأخذ العبارات بسطحيتها ويعمل في رقبتها سكين الجهل وتعميم الغباء. لماذا الأرانب؟ هل تقصد الروائية رمزية الخوف الذي تنتشر روائحه النتنة في المكان؟!

العبرة في «الألفاظ والمباني وليست في الأفكار والمعاني»، هكذا قلبت رأساً على عقب القاعدة الشرعية التي تقول إن «العبرة في المقاصد والمعاني وليست في الألفاظ والمباني» بدولة الرقابة والتفتيش عن الضمائر.

«يجب أن تفهم طبيعة عملك جيداً، فهذه الأشياء التي نقوم على فحصها أشد خطورة من المخدرات، والأسلحة والحب»... لنتذكر الراحل سعد الله ونوس وحوار الجلاد والشاعر، وتعود بنا بثينة في مترادفات التناقض لجورج أرويل برواية 1984 في جمهورية الأخ الأكبر الذي «يراقبك» دائماً ويحسب عليك أنفاسك، يفرض عليك المعنى كما يريد، فالحرب هي السلام، والعبودية هي الحرية، والجهل هو القوة.

المفتش ينقلب حاله من قراءة الكتب المحرمة ويتبدل فكره...! تنقلب حياته وحياة أسرته... ماذا يحدث له فيما بعد؟ اقرأوا الرواية... في النهاية طريق السلامة يأمرنا أن «نصمت، نسكت، لا نتحدث، لا نفكر». الخيال الذي نشكل به العالم ونراه جميلاً محرم... هذا الخيال جريمة... تخيلوا! أبداً، لا تتخيلوا فهذه جريمة.

back to top