الترشيد والتقشف الحكومي
إن الإسراف في الصرف الحكومي على العديد من الخدمات منذ الاستقلال أوجد نمطاً استهلاكياً لدى العديد من المواطنين لا يمكن تقبله مع الظروف التي تمر بها البلاد في هذه الأيام، وخصوصاً مع مؤشرات الانخفاض في أسعار النفط والعجز في الميزانية العامة للدولة، ونظراً لتعوّد معظم المواطنين على الإسراف في استهلاك الكهرباء والماء والخدمات الحكومية فضلاً عن الإسراف في المأكل والملبس والمسكن نتيجة للفوائض المالية والطفرة المالية التي شهدتها البلاد خلال العقود الثلاثة الماضية بالإضافة إلى تأخر الحكومة وتقاعسها عن تحصيل فواتير الخدمات الحكومية ورسومها في أوقاتها المحددة، وكذلك تردد المواطن في دفع هذه الفواتير والرسوم أملاً في أن تقوم الحكومة بإسقاطها أو تقسيطها!
وقد ساهم مجلس الأمة في العقدين الماضيين ومن خلال قراراته الشعبوية في سن بعض القوانين والتشريعات التي تزيد عدد الدعومات الحكومية للمواطنين ونوعيتها وقيمتها في العديد من المجالات والخدمات الحكومية، مثل بدل الإيجار ومواد البناء والمسكن وقرض الزواج والمواد الغذائية والدوائية ومصاريف العلاج والتعليم.
وفي ظل تكرار الفوائض المالية سنة بعد سنة، واستمرار تقاعس الحكومة في عدم تحصيل مستحقاتها عاما بعد عام، وُجد انطباع لدى بعض المواطنين بأن الحكومة ليست جادة في تحصيل هذه الرسوم والمستحقات المالية، وأنها ستلغي بعض الرسوم والمستحقات المالية مستقبلاً.
بعد كل هذه السنوات من عدم جديتها في تحصيل مستحقاتها المالية، وفي ظل عجز للميزانية العامة للدولة بعد سنوات الفوائض المالية المتتالية، بدأت الحكومة تطلب من المواطنين شد الحزام والاستعداد لتخفيض الدعومات الحكومية بشكل جذري.
وتماشياً مع ما تم ذكره فقد أدت سياسة التقشف التي اتبعتها الحكومة البريطانية أثناء حكومة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون بسبب خلافات حادة حول الموازنة الجديدة التي تضمنت مزيداً من إجراءات التقشف، إلى قيام وزير العمل والمعاشات البريطاني في حينها إيان دنكن سميث بتقديم استقالته من حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بسبب خلافات حادة حول الموازنة الجديدة التي تضمنت مزيداً من إجراءات التقشف، الذي قال في رسالة استقالته إنه لن يستطيع الدفاع أمام الرأي العام عن الموازنة التي أقرتها الحكومة «وتضمنت إجراءات تقشفية إضافية استهدفت الأسر الفقيرة والإعانات المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة»، واتهم الوزير الحكومة بإقرار موازنة تخدم أصحاب المداخيل المالية الكبيرة من دافعي الضرائب معتبراً أن «الرأي العام أصبح ينظر لإجراءات التقشف على أنها ذات طابع سياسي محض لا سياسة اقتصادية تخدم المصلحة الوطنية».
أتمنى ألا تكون إجراءات التقشف وترشيد الإنفاق التي تنتهجها الحكومة الكويتية هذه الأيام سائرة على خطى حكومة كاميرون البريطانية، وذات طابع سياسي بحت وليست على أسس اقتصادية ومالية سليمة لخدمة المصلحة العامة! فالأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تمر بها المنطقة فضلاً عن أن الوضع الاجتماعي الكويتي ذو طبيعة وتركيبة خاصة، ويتطلب من راسمي السياسة المالية والاقتصادية استخدام إجراءات وأساليب ابداعية وخطط استراتيجية جديدة في التعامل مع الأزمة الاقتصادية، حيث إن سياسة الدولة الراعية وتقاعسها خلال العقود الماضية عن تحصيل مستحقاتها المالية أوجد ممارسات وتوجهات وسلوكيات ليس من السهل تغييرها بقرار يتخذ في جلسة حوار لمجلس الوزراء الموقر، فالأمر يتطلب أكثر من ذلك، لأن عملية تغيير الأنماط المعيشية والسلوكيات البشرية التي تعود عليها معظم المواطنين في زمن دولة الرفاهية ليس من السهل التخلي عنها بمجرد جرة قلم!
يحتاج النهج التقشفي والترشيدي الذي تنوي الحكومة اتخاذه إلى حملة توعية مجتمعية ومشاركة السلطة المواطنين واقتناعهم بالاجراءات الحكومية المتخذة بهذا الخصوص! كما يتطلب الأمر مشاركة جمعيات النفع العام وجمعيات المجتمع المدني في التهيئة لسياسة خفض الدعومات الحكومية واجراءات تطبيقها وأهمية مشاركة وسائل الإعلام المختلفة الحكومية والخاصة في توعية المواطنين بأهداف وإجراءات وآليات سياسة الترشيد والتقشف الحكومي.
واستخلاصاً لما سبق فإن الاستعجال في تطبيق إجراءات خفض الدعومات الحكومية وتطبيق سياسة الترشيد والتقشف الحكومي بدون وجود خطة إعلامية توعوية وخريطة طريق للسياسات الاقتصادية والمالية التي تنوي الحكومة اتخاذها، ستؤدي حتماً إلى نتائج ليست بالمصلحة العامة، خصوصا في ظل اطلاع المواطنين من خلال الوسائل الإعلامية المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي المتعددة على أماكن هدر وتبذير حكومي كبير وواضح في نواح عديدة في جهاز الحكومة ومشاريعها الكبرى، ناهيك عن عدم وجود الرقابة والمتابعة الحكومية الفاعلة لوقف أوجه الهدر المتعددة.
وفي تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2023 عن الكويت أوصى بإعادة النظر في الدعومات الحكومية وضرورة تقليص الدعم الحكومي تدريجياً والتركيز على دعم الفئات المستحقة، مع إعادة توجيه الموارد لتعزيز العدالة بين الأجيال، كما أوصى التقرير بأن تقوم الحكومة بترشيد الإنفاق وزيادة الاستثمارات الرأسمالية، إضافة إلى تحسين كفاءة الدعم الحكومي، وتقليل الإنفاق غير الضروري.
إن مشاركة المواطن وإشراك مؤسسات النفع العام ومؤسسات المجتمع المدني في اتخاذ وتنفيذ السياسات والقرارات والإجراءات التقشفية وخفض الدعومات الحكومية لم يصبح خياراً بل أصبح واجباً ومطلباً أساسياً لنجاح السياسة الاقتصادية والمالية التي تنتهجها الحكومة في زمن العجز المالي والأزمات المالية والاقتصادية.
ودمتم سالمين.