أيوب ابن القِريّة، والقِريّة لقبٌ لأمه، أما اسمها الحقيقي فهو خماعة بنت جُشم بن ربيعة، وخماعة اسم غريب، لأنه يُطلق على الضبعة العرجاء.
كان ابن القِريّة أعرابياً أُمياً، عاش في العصر الأموي، وكان يُضرب به المثل لحسن بيانهِ وبلاغتهِ، وقد وفد على الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أعجب بفصاحته وجعله من أصحابه.
كان يُستشهد به، فيقال: أبلغ من ابن القِرية، وقد شهد له الأصمعي بالتفوق في الفصاحة والخطابة، فقال: أربعة لم يلحنوا، أي لم يخطئوا بالإعراب، لا في جد ولا هزل، وهم عامر الشعبي، وعبدالملك بن مروان، والحجاج بن يوسف الثقفي، وابن القِرية.
وحدث أن سأل الحجاج بن يوسف ابن القِرية عن أضيع الأشياء؟ فقال: سِراجٌ في شمس، ومطرٌ في سبخة، وبِكْر تُزَفّ إلى عَنين، أي عاجز، وطعام متأنّقٌ فيه عند سكران، ومعروف عند غير أهله.
ودخل ابن القِرية على الحجاج يوماً فسأله أسئلة كثيرة، فكانت ردوده عليها عبارة عن حكَم وبلاغة وفصاحة، فقد سأله: ما الكفر؟ قال: البطر بالنعمة، واليأس من الرحمة، ثم سأله: ما الرضا؟ فقال: الثقة بقضاء الله، والصبر على المكاره، فسأله: ما الحلم؟ قال: إظهار الرحمة عند القدرة، والرضا عند الغضب، فسأله: ما الصبر؟ قال: كظم الغيظ والاحتمال لما يراد، فسأله: ما الكرم؟ قال: حفظ الصديق وقضاء الحقوق.
ثم إن الحجاج واصل حواره الشائق مع ابن القرية، فسأله: ما القناعة؟ قال: الصبر على الجوع والعري عن اللباس، فسأله: ما الغنى؟ قال: استعظام الصغير واستكثار القليل، فسأله: ما الرفق؟ قال: إصابة الأشياء الكبيرة بالآلة الصغيرة الحقيرة، فسأله: ما الحمية؟ قال: الوقوف على رأس من هو دونك، فسأله: ما الشجاعة؟ قال: الحملة في وجوه الأعداء والكفار، والثبات في موضع الفرار، فسأله: ما العقل؟ قال: صدق المقال وإرضاء الرجال، فسأله: ما العدل؟ قال: ترك المراد وصحة السيرة والاعتقاد، فسأله: ما الإنصاف؟ قال: المساواة عند الدعاوى بين الناس، فسأله: ما الذل؟ قال: المرض من خلو اليد، والانكسار من قلة الرزق، فسأله: ما الحرص؟ قال: حدة الشهوة عند الرجال، فسأله: ما الأمانة؟ قال: قضاء الواجب، فسأله: ما الخيانة؟ قال: التراخي مع القدرة، ثم سأله: ما الفهم؟ قال: التفكر وإدراك الأشياء على حقائقها.
ومن أقوال ابن القرية: أحق الناس بالإجلال ثلاثة، العلماء والإخوان والسلاطين، فمن استخف بالعلماء أفسد دينه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه، والعاقل لا يستخف بأحد.
وقال: أنواع الرجال ثلاثة، عاقل وأحمق وفاجر، فالعاقل إذا تكلّم أجاد، وإن سمِع وعى، وإن نطق نطق بالصواب، أما الأحمق فإن تكلّم عجل، وإن حُدِّث ذهل، وإن حمل على القبيح فعل، وأما الفاجر فإن ائتمنته خانك وإن حادثته شانك.
ولكن، ورغم إعجاب الحجاج بابن القرية، فإنه قتله لخيانة أُجبر عليها، ثم ندم على ذلك.