العشرون من يناير
حذر الرئيس الأميركي القادم دونالد ترامب من أن ثمناً باهظاً ستدفعه الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة إذا لم يطلق سراح الرهائن المحتجزين لديها قبل توليه منصبه في 20 يناير، وأن الشرق الأوسط سيواجه الجحيم كله في هذه الحال بالنسبة إلى المسؤولين الذين ارتكبوا الفظائع ضد الإنسانية، أي فظائع تلك التي ارتكبت ضد الإنسانية بقتل ما يزيد على 44 ألفاً وجرح أكثر من مئة ألف واعتقال أكثر من خمسين ألف فلسطيني أثناء حرب غزة؟ أليس كل هؤلاء بشر أم أن بضع عشرات من الرهائن الإسرائيليين هم وحدهم البشر؟
العرب الأغبياء
خذل ترامب بهذا التصريح العرب الأغبياء في الولايات المتأرجحة التي كانت تصوت عادة للحزب الديموقراطي عندما صوتوا في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة لمرشح الحزب الجمهوري ترامب ضد مرشحة الحزب الديموقراطي كامالا هاريس، وكانت أصواتهم في الانتخابات الرئاسية سنة 2020 أحد أسباب فوز بايدن مرشح الحزب الديموقراطي في هذه الانتخابات، فخذلهم جو بايدن عندما دعم إسرائيل بالسلاح والمال في إبادتها الجماعية للشعب الفلسطيني في حربها على غزة والذي لم يسبق إليه أحد رؤساء الولايات المتحدة الأميركية منذ قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947 التي كانت تهيمن عليها وتقودها الولايات المتحدة الأميركية الى العهد الجديد للاستعمار العالمي.
وخذل العرب الأغبياء في هذه الولايات المتأرجحة في انتخابات الرئاسة الأميركية البابا فرانسيس بابا الفاتيكان عندما طالب الناخبين في هذه الانتخابات بانتخاب المرشح الأقل شراً، وضرب البابا الأمثلة لذلك في قضية اجتماعية مثل الإجهاض، وفي قضية الهجرة والحائط الذي بناه ترامب في الحدود مع المكسيك، وقد عبر الباب الفاتيكان بهذين المثالين عن أن هاريس ستكون الأقل شراً.
توحيد الاستعمار العالمي
لقد أخطأ عرب الولايات المتأرجحة في أميركا في حساباتهم وتقييمهم للدعم الأميركي الهائل لإسرائيل في حربها على غزة في رئاسة بايدن التي ستنتهي في العشرين من يناير المقبل، وذلك أن دعم بايدن الهائل لإسرائيل في هذه الحرب الوحشية لم يأت من فراغ، بل كان نابعاً من الظروف التي تغيرت في إطار الاستعمار العالمي الجديد الذي تحقق به حلم الرئيس الأميركي الأسبق الرئيس نيلسون في مطلع القرن الثامن عشر، عقب الحرب العالمية الأولى في برنامجه الذي وضعه للسلام بين الدول الاستعمارية الكبرى التي خاضت سباقاً للتسلح بين الدول الأوروبية الكبرى في حروبها الصغرى، كحرب البلقان والصراع في المستعمرات في مجال سعيها نحو المزيد منها قبل الحرب العالمية الأولى.
وكان هذا البرنامج يتكون من 14 منظمة للسلام من ضمنها وعلى رأسها حرية الملاحة في البحار، ونزع القيود عن التجارة، فقبل هذا القرن كانت منظمة الدول تدعي ملكية البحار العامة، وتفرض سيادتها عليها، الأمر الذي أخل بالتوازن بين الإمبراطوريات الاستعمارية، كما كان مبدأ حرية الملاحة الذي نادى به نيلسون هو نقطة البداية للاستعمار العالمي الجديد متعدد الجنسيات بقيادة الويالات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، وقنن القانون الدولي العام هذا المبدأ، حيث نصت عليه اتفاقية جنيف لعام 1958، وكذلك كان هدف مبدأ نيلسون في حرية التجارة، تداول ثروات الدول المستضعفة وتحويلها في جميع النشاطات الاقتصادية والصناعات التحويلية للنفط وغيره من مواد أولية تملكها هذه الدول، إلى سلع يسوقها الاستعمار العالمي الجديد لزيادة ثرواته، وإفقار هذه الدول باستنزاف مواردها لصالحه، ليزداد ثراء على حسابها دونما حاجة الى احتلال الأراضي، الذي كانت كلفته عالية اقتصادياً وبشرياً على هذه الدول، خاصة بعد بزوغ الوعي الوطني والقومي وثورات التحرير التي اجتازت العالم كله، وهو ما قننته اتفاقية الغات وغيرها من اتفاقيات العولمة الآن لصالح الاستعمار العالمي الجديد.
ولكن لا يمنع ذلك من عدوان الاستعمار العالمي على حرية الملاحة وحرية التجارة، وهو ما هدد به ترامب الصين في فرض قيود على صادراتها للولايات المتحدة الأميركية من ناحية الرسوم وغيرها، وهو ما تعرضت له إيران من فرض قيود على حريتها في الملاحة والتجارة بقرارات أصدرها مجلس الأمن الذي أصبح دمية في يد الولايات المتحدة الأميركية فضلاً عن العقوبات الاقتصادية التي فرضت على إيران وعلى روسيا بعد حرب أوكرانيا بقرارات من المجلس أيضاً.
إسرائيل مستوطنة الاستعمار العالمي
ولم يكن قرار تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب الذي أصدرته الأمم المتحدة في نوفمبر سنة 1947، وصمت المجتمع الدولي على توسع إسرائيل حتى ابتلعت أكثر من 80% من الأرض المخصصة للفلسطينيين إلا البديل عن احتلال الاستعمار القديم للأراضي، فقد زرعت إسرائيل في قلب الوطن العربي وفي الطريق إلى ثروات آسيا وإفريقيا لتكون شوكة في هذا القلب، ولتكون مخلب القط في هذا الطريق، ولتكون جزءاً من الاستعمار العالمي الجديد والأرض التي يتكئ عليها هذا الاستعمار العالمي الجديد بعد قرار الأمم المتحدة بتصفية الاستعمار القديم، وقد كانت صفقة القرن التي أعلنها الرئيس ترامب في فترة رئاسته الأولى والتي أراد بها تصفية القضية الفلسطينية من خلال استثمار أموال النفط العربية والشركات الغربية المتعددة الجنسيات (الاستعمار العالمي الجديد) في الضفة الغربية.
تغير الظروف
وقد نسي عرب الولايات المتأرجحة في الانتخابات الرئاسية في أميركا الذين صوتوا لترامب ولم يصوتوا لهاريس الأقل شراً بعد أن خذلهم بايدن وكان أكثر الرؤساء الأميركيين زخماً ودعماً لإسرائيل في حربها على الفلسطينيين وتهجيرهم القسري الظروف المتغيرة الكثيرة التي ساعدته في أن يكون الأكثر دعماً لإسرائيل.
وأول هذه الظروف فقد كان طوفان الأقصى هو التحدي الأكبر حين خرج بضع مئات من الشباب الفلسطينيين من الأنفاق ليهزموا فرقة غلاف غزة وليأسروا بعض جنودها والرهائن من المستوطنين الذين هم خبراء من جيش الاحتياط الإسرائيلي، فضاعت هيبة الاستعمار العالمي الجديد والذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتترأسه، فخلع قناع الوسيط المحايد الكاذب في الصراع العربي الإسرائيلي، فإسرائيل أنشئت لتكون أداة الاستعمار العالمي الجديد في بسط نفوذه وسيطرته على العالم أجمع.
كما خلع نيكسون قناع الوسيط المحايد الكاذب هذا القناع في حرب أكتوبر 1973 عندما انتصر العرب في هذه الحرب بعبورهم قناة السويس، المانع المائي الكبير الذي تحرسه وتحميه أنابيب النابالم التي سدتها قوات الصاعقة المصرية قبل العبور واجتياز القوات المصرية خط بارليف المنيع عندما وضع نيكسون جسراً جوياً عسكرياً أميركياً لمساعدة إسرائيل ودعمها.
وثاني هذه الظروف التي ساعدت بايدن في أن يكون الأكثر شراسة وزخماً ودعماً لإسرائيل هو الصمت العربي والضعف العربي والانقسام العربي - العربي، فلم يعد التهديد الإسرائيلي يشكل أي خطر على الأمن القومي العربي والتطبيع يسير على قدم وساق في تطبيع بعض دول الخليج مع إسرائيل بل أصبح إرهاب داعش والقاعدة وغيرهما يشكل الخطر الأكبر على أنظمة الحكم العربية، والقاعدة هي التي زرعتها أميركا في أفغانستان لتنتقل بعد ذلك الى الوطن العربي، فوصمت حماس بالإرهاب، ووصفت الجماعات المعارضة في سورية بالجماعات الإرهابية، ووصفت الرأي الآخر في الوطن العربي بالخيانة العظمى وأنه يمول من الخارج.
وثالث هذه الظروف تغير الظروف العالمية ذلك أن أميركا أصبحت القطب الأوحد في العالم الذي يفيد الاستعمار العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتسيد أميركا العالم بلا منازع مع غياب الزعامات التاريخية في العصر الحديث رؤساء الاتحاد السوفياتي الذين ناصروا قضايا الاتحاد وزعماء حركة عدم الانحياز رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو والرئيس المصري جمال عبدالناصر والرئيس اليوغوسلافي تيتو، وضعف الاتحاد الأوروبي بغياب الزعامة التاريخية في فرنسا ديغول وغياب رؤساء أميركا مثل أيزينهاور وكينيدي لذلك كان بايدن الأكثر شراسة وزخماً ودعماً لإسرائيل من بين رؤساء أميركا جميعاً.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.