بعد ثمنٍ فادحٍ تكبدته دماءٌ زكيةٌ جادت بها الألوف المؤلفة التي لم يكن لها ذنب إلا تطلّعها نحو هواء نقي لا تذوق فيه مرارة العبودية...
بعد تشريد ملايين اللاجئين الذين فرّوا بحريتهم وإنسانيتهم وكرامتهم وأرواحهم في مشارق الأرض ومغاربها... بعد امتلاء سجون طاغية الشام بالأحرار الأبرياء الذين تنوء بحمل أسمائهم القوائم الطويلة... بعدما شابت مفارق المهجرين يأساً من أن ترى هذا اليوم الذي طالما دمعت أرواحهم وعيونهم شوقاً إليه وإشفاقاً ألا يروا شمسه قبل أن يغادروا هذه الحياة... بعد أكثر من 13 سنة من ثورة الكرامة المجيدة، وقبلها عقود من الظلم والقمع واستعباد البشر وانتهاك حقوقهم وإنسانيتهم وآدميتهم بأقذر وأحط وأخس ألوان التعذيب.
بعد هذا كله، ها هي سورية تعود إلى أبنائها مشرقة أبية وقد نفضت عن نفسها أدران مرحلة مظلمة ذاق فيها السوريون أمرّ مرارات الحياة وأحطّ ألوان التعذيب، ليصلوا إلى أقصى درجات اليأس، الذي من رحمه وُلِد الأمل، ليبدأوا مرحلةً جديدةً لم يكونوا يظنون أنهم سيرونها!
يوماً ما ظن السوريون أن الزمان لن يقسو عليهم بطاغية آخر مثل حافظ الأسد الذي حكمهم بالحديد والنار والخوف والذعر وأذاقهم الويلات بقبضته الأمنية المحكمة، وأباد بطائراته في محافظة حماة وحدها ما يقارب 40 ألف شهيد، ليحول بلاده إلى سجن كبير، هكذا ظنوا، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ خلفه من بلغ في الاستبداد المدى وفي استعباد البشر ما لم يطلبه حاكم، فسجن المدنيين والنساء والأطفال دون أن يرعى حرمة أو ضميراً، ورمى العزّل بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، ودفن الأسر تحت ركام بيوتها، ودمّر الأخضر واليابس وسلّم خيرات بلاده إلى كل طامع حفاظا على كرسيه، وسط تهليل وتقديس من شبيحة رفعوه إلى مرتبة لم ينلها بشر، حتى أنهم، وفقاً لما طالعتنا به المقاطع المصورة التي لا تنسى، كانوا يجبرون المستضعفين المأسورين على أن يشهدوا أنه ربٌّ يعبد من دون الله، إمعانا في إذلالهم وسخرية من معتقداتهم!
في عهد بشار الأسد، صارت السجون مقراً دائماً لنزلائها مهما صغرت جرائمهم، وصار «الشبيحة» وضباط النظام فوق المساءلة والحساب، مع إطلاق أياديهم الملوثة في إنزال العقاب والقتل بمن يشاؤون وكيف يشاؤون، حتى صاروا ينصبون المجازر الجماعية ويغتصبون السجينات العفيفات بدماء باردة ونفوس سادية آثمة، أما من بقي خارج السجون من المواطنين فمصيره أن يموت جوعاً لقلة الرواتب وزيادة الغلاء وانعدام الرعاية والأمن.
جرائم النازي الهارب بلا نهاية وسجلّه أكثر سواداً من أن يوصف، وممارساته أبشع وأكثر من أن تتسع لها هذه الأسطر، لكن ما نسجله هنا لا يعدو أن يكون تذكيراً بما كان فيه السوريون ليحافظوا على ما صاروا إليه من نعمة الحرية، وتحرير الوطن، ليفتحوا صفحة جديدة في سفر بلادهم الخالد، غير ملتفتين إلى الماضي الكئيب، محافظين على وحدتهم وجميع طوائفهم على قلب رجل واحد من أجل إعادة الإعمار والنهوض ببلادهم من عثرتها، لتعود كما كانت دائماً حاضرة الدنيا وشمس المشرق، بما يليق بمنزلتها ومكانتها التي لم تتزعزع يوماً في قلوب أبنائها ومحبيها.
إليكم بني وطني، وإلى كل عربي محب لسورية، نزفّ أحر التهاني، آملين أن تغدو المرحلة القادمة مرحلة العمل والإخلاص والتغلب على تحديات النفوس، ووأد أي دعوة للانتقام، متطلعين إلى هدف بنّاء يوحد الجميع ويشحذ الهمم، تفتح به سورية الجديدة ذراعيها لكل سوري خارجها ذاب اشتياقاً للعودة إليها، وكل سوري داخلها كان قد يئس من عودتها إلى أبنائها.