تشكل البيانات الضخمة اليوم المورد الأساسي الذي ينافس النفط التقليدي في الأهمية الاقتصادية والاجتماعية، فكما كان النفط المصدر الرئيسي للطاقة الذي قاد الثورة الصناعية، فإن البيانات اليوم هي الوقود الذي يدعم الثورة الرقمية، محدثة تحولاً كبيراً في مختلف القطاعات، مثل التكنولوجيا والاقتصاد والتعليم والصحة وسوق العمل.
وتعتبر البيانات الضخمة عنصراً حيوياً في صياغة قرارات أفضل وأكثر ذكاءً، فعبر تحليل كميات هائلة من المعلومات، يمكن للشركات الخاصة والمؤسسات الحكومية تحسين الأداء، وزيادة الكفاءة، وخفض التكاليف. فعلى سبيل المثال، تعتمد الشركات العملاقة مثل «أمازون» و«غوغل» على البيانات لفهم احتياجات العملاء بشكل دقيق، ما يُمكنها من تحقيق إيرادات تُقدر بمليارات الدولارات سنوياً. وفي تصنيف عام 2024 لأكبر 10 شركات عالمية من حيث القيمة السوقية، نجد أن 8 منها تعتمد بشكل رئيسي على البيانات الضخمة في نماذج أعمالها، مثل Google، Amazon، Microsoft، Meta، Apple، Nvidia، Tesla، TSMC.
هذا الاعتماد الكبير يعكس أهمية البيانات في تحقيق النمو الاقتصادي والابتكار المستدام.
من الناحية الاقتصادية، تساهم البيانات في تحسين التجارة العالمية من خلال التنبؤ بالأسواق وتقليل المخاطر. وفي المجال الصحي، ساعدت تقنيات الذكاء الاصطناعي، المستندة إلى البيانات، في تسريع اكتشاف الأدوية وتشخيص الأمراض بدقة أعلى. وفي المجال التعليمي، ساهمت البيانات الضخمة في إحداث ثورة تعليمية من خلال تكييف البرامج التعليمية بما يتناسب مع احتياجات كل طالب، مما يعزز من فعالية العملية التعليمية. فعلى سبيل المثال، يمكن من خلال تحليل البيانات تحديد نقاط القوة والضعف لدى الطلاب بشكل دقيق، وتقديم محتوى تعليمي مخصص يرفع من مستوى التحصيل الدراسي لكل طالب. هذه الابتكارات ليست مجرد تحسينات تقنية، بل أدوات استراتيجية لتطوير رأس المال البشري، الذي يُعد العنصر الأهم في تحقيق التنمية المستدامة.
بالنسبة للكويت، تمثل البيانات الضخمة فرصة غير مسبوقة لإحداث نقلة نوعية في اقتصادها الريعي. فمن خلال تطوير مراكز تحليل بيانات متقدمة، يمكن للكويت أن تصبح مركزاً إقليمياً رائداً في الشرق الأوسط لتكنولوجيا البيانات الضخمة، مما يعزز مكانتها كوجهة للابتكار الرقمي، ففي ظل تقلبات أسعار النفط التي تراوحت بين 70 و90 دولاراً للبرميل، وما نتج عنها من عجز مالي يقدر بـ18 مليار دولار في السنة الحالية 2024-2025، تبدو الحاجة ملحة لاعتماد استراتيجيات جديدة تركز على الاقتصاد الرقمي لتنويع مصادر الدخل.
لتحقيق هذه الرؤية، ينبغي على الكويت تعزيز بنيتها التحتية الرقمية من خلال الاستثمار في شبكات اتصال فائقة السرعة ومراكز بيانات حديثة تلبي احتياجات الاقتصاد الرقمي المتنامي، وقد بدأت الكويت بالفعل في هذا الاتجاه من خلال شراكتها الاستراتيجية مع «Google Cloud»، والتي تهدف إلى تنفيذ خارطة طريق شاملة للتحول الرقمي عبر الجهات الحكومية والمؤسسات المملوكة للدولة. إضافة إلى ذلك، يتطلب الأمر إطلاق برامج تعليمية تُركز على علوم البيانات والذكاء الاصطناعي، بهدف إعداد كوادر بشرية متخصصة وقادرة على قيادة هذه الصناعة المستقبلية. هذه الشراكة مع «Google Cloud» تعد مثالاً عملياً على كيفية الاستفادة من الخبرات العالمية لبناء منظومة متكاملة لتحليل البيانات، مما يعزز من مكانة الكويت كوجهة إقليمية رائدة في الابتكار الرقمي والتنمية المستدامة.
البيانات الضخمة هي بالفعل «النفط الجديد»، حيث أصبحت محوراً أساسياً لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز التنوع الاقتصادي. للكويت فرصة استثنائية لتحقيق تحول جذري في اقتصادها وتعزيز مكانتها الإقليمية والعالمية إذا جعلت الاستثمار في البيانات أولوية استراتيجية. فمن خلال تطوير بنية تحتية رقمية متقدمة، وإطلاق برامج تعليمية متخصصة في علوم البيانات والذكاء الاصطناعي، إلى جانب الاستفادة من شراكات رائدة مثل التعاون مع «Google Cloud»، يمكن للكويت أن تمهد الطريق نحو اقتصاد رقمي مبتكر ومتين.
البيانات ليست مجرد أداة تقنية، بل هي جوهر التحول نحو اقتصاد ذكي ومستدام يضع الكويت في مقدمة الدول الرائدة عالمياً في عصر الثورة الرقمية.