لست وحدي من يعيش هذه الأيام ويردد، هل ما حصل في سورية حقيقة أو حلم في ليلة شتوية هادئة؟ لست وحدي من غمرته مشاعر الفرح لفرحة الملايين من السوريين في الداخل والمهاجر من انزياح همّ طويل جثم على صدورهم خمسة عقود، عاشوا فيها بلا قدرة على الكلام أو الحركة أو الاختيار، تلك الفرحة لم أجد لها شعوراً مثيلاً حيث صاح العقل فيها قائلاً: انظر في عيون المساجين المذهولين والأمهات الثكالى والدموع التي أخذت مقاعد الكلمات واغترف منها بقدر ما تستطيع، فتلك ليست فرحة وكفى، بل هي روح تمدك بمعنى الحياة ومشاعر تفور بالصدق وأمل يُذهب اليأس، إن العقل لم يذهب لكنه رقص مع القلب امتثالاً لهيبة تلك اللحظة التاريخية النادرة من أيام العرب.
لقد ظلت سورية (كنظام لا دولة) عنصراً ثابتاً في معادلات الشرق الأوسط منذ 1970م، حتى 8/ 12/2024م، مرت عليها أحداث جسام لم تكن فيها طرفاً متفرجاً بل راوحت بين اللاعب والداعم، كان أبرزها حرب 1973م والحرب العراقية - الإيرانية والوجود العسكري في لبنان وحرب تحرير الكويت 1991م وحرب تحرير العراق 2003م وأخيراً الحرب الأهلية المدمرة منذ 2011م.
وحتى نستوعب ذلك المشهد أكثر، علينا فقط احتساب التغييرات التي حصلت مع جيران سورية ومحيطها العربي وحتى العالمي لنعرف كيف أن ذلك النظام ظل كالكتلة الصلدة، يتغير العالم من حوله وهو باق على أسلوبه المخابراتي نفسه في التعامل مع أبناء شعبه.
إن الحديث المشبع بالأسئلة حول مستقبل سورية أمر مفهوم وطبيعي، فنحن نتحدث عن بلد عربي له مكانته التاريخية والحضارية وموقعه الجغرافي الحيوي، حصل فيه التغيير المستحيل في خضم حرب الإبادة في غزة ولبنان وبعد حرب أهلية طاحنة أجبرت الملايين من السوريين على الهجرة القسرية.
لقد ورث من تسلموا قيادة سورية اليوم بلداً تجاوز مرحلة الإنهاك إلى الاهتراء، وحتى النظام البائد الذي كسب بعض الوقت بعد تجمد الحرب الأهلية عجز عن إصلاح ما دمرته الحرب أو حتى النجاح في ملف عودة اللاجئين، وبقي في موضع المتلقي للمساعدات الباهظة من حلفائه الروس والإيرانيين حتى تحول إلى عبء ضخم وتم التخلص منه بدافع المصلحة البحتة، فالروس يطمحون لصفقة مرضية مع زعيم البيت الأبيض القادم حول أوكرانيا، والإيرانيون يريدون السلامة أملا في تجاوز مرحلة تقطيع أذرعها.
إن كل ما يدور اليوم في سورية هو محط أنظار العالم، والمسار الذي سيخطو فيه الثوار سيؤدي دوراً هاما في تحديد الكثير من المواقف داخلياً وخارجياً، أولها هوية الدولة ونظامها الاقتصادي وطبيعة علاقتها مع جيرانها، خصوصا مع تركيا ولبنان الذي يترقب كل همسة في دمشق، هل ستعود سورية للتدخل في الشأن اللبناني او تتركه لحاله؟ أوضاع الأقليات، حرية الصحافة وإنشاء الأحزاب، هل ستعود سورية إلى الحضن العربي وألف سؤال وسؤال؟
لقد كتبت الأسطر الأولى في تاريخ سورية الجديدة بصورة هادئة حتى الآن، فلا دماء كثيرة ولا انتقام متوقعا وتم التعامل مع رئيس الحكومة في النظام السابق لتسليم السلطة بصورة سلمية، وهنا لا بد أن أتوقف عند نقطة مهمة، فالسرعة الضوئية التي تحركت فيها قوات هيئة التحرير الشام من حلب إلى دمشق وكيفية تعامل المسلحين مع أهالي حلب، أعطت دليلاً ملموساً على القبول الشعبي لها والإنهاك الواضح لشعب ملّ وشبع من الحروب والدماء والتهجير.
في الختام ووسط فرحي بما حصل في سورية، لن أخفي ما تخفيه بعض الدول من هواجس، وأقول إن الحكم بأيديولوجيا دينية في بلد متنوع الأعراق والأديان مشبع تاريخياً بمشاعر العروبة لن يأخذ سورية إلا إلى فصل جديد من فصول الحزن والألم والمآسي، حفظ الله سورية وشعبها من كل شر ومكروه.
* من قصيدة لنزار قباني.