بشيء من سوء التنسيق وشيء من المنافسة، عقد منتدى حوار المنامة 2024، وهو النسخة الـ 20 لهذا المنتدى الأمني الإقليمي الرفيع الذي ينظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) بالتعاون مع وزارة الخارجية البحرينية، بالتزامن مع انعقاد منتدى الدوحة الذي يطمح منذ انطلاقه قبل 4 سنوات للعب دور أساسي في تشكيل النقاش الأمني والاستراتيجي في المنطقة.

ويبدو أن الحدث السوري المباغت، والسقوط الدراماتيكي لنظام البعث بقيادة عائلة الأسد في دمشق، في آخر أيام المنتدى، الذي افتتح في 6 ديسمبر واختتم 8 منه، قد أخذ المنظمين، مثلهم مثل الكثيرين حول العالم بما في ذلك دول معنية بالصراع، على حين غرة، دون أن يعني ذلك أن عناوين الجلسات النقاشية كانت بعيدة تماماً عن ملامسة التحديات والتداعيات التي يفرضها الزلزال الاستراتيجي السوري.

Ad

وتحت شعار «القيادة في الشرق الأوسط في تشكيل الرخاء والأمن الإقليمي»، افتتح وزير خارجية البحرين، عبداللطيف الزياني، المؤتمر الذي شاركت فيه «الجريدة» للعام الثالث، بكلمة، شددت على دور البحرين ودور المنتدى في تعزيز التعاون الإقليمي والدولي متعدد الاطراف، فيما القى وزير خارجية السعودية، الأمير فيصل بن فرحان، الخطاب الرئيسي، مركزاً على محورية الأمن في المنطقة والحاجة للتوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية كحجز زاوية لبناء سلام إقليمي.

وكان للأمير تركي الفيصل، المشارك الدائم في المنتدى، كلمة لمّاحة، أشار فيها الى أن قادة المنطقة يفعلون ما في وسعهم لحلّ الأزمات التي تعصف بالشرق الأوسط، لكن مع تشابك الصراعات الإقليمية والدولية، هناك محدودية لما يمكن أن تقوم به تلك القيادات في ظل غياب القيادة الدولية والأميركية خاصة.

وإذ جدد وصفه إسرائيل بأنها آخر مستعمرة غربية قائمة على الفصل العنصري في المنطقة، وهو وصف أطلقه من على نفس المنبر في 2020، أضاف الأمير تركي أنه بعد ما حدث في غزة اكتسبت إسرائيل لقب آخر مستعمرة غربية قائمة على الإبادة العرقية. في الوقت نفسه، قال رئيس الاستخبارات السعودية السابق إنه على إيران أن تفهم أن دعمها للوكلاء في أنحاء المنطقة لن يجلب لها وللمنطقة الأمن، وأن ما حصل في لبنان وسورية واليمين أظهر بوضوح أن هذه الجماعات ليست استثماراً ناجحاً.

بدوره، لفت أنور قرقاش مستشار الرئيس الإماراتي الى أهمية سؤال الأمن في المنطقة والطبيعة المدمرة للصراعات العسكرية في ضوء فشل السياسة، مشدداً على وجوب ألا تكون الأدوار الدفاعية والعسكرية في المنطقة تحت سيطرة جماعات مسلحة. ورأى قرقاش أن ما جرى في سورية هو نتيجة فشل سياسي من قبل الأسد الذي لم يحسن استغلال شريان الحياة التي منحته له دول المنطقة، معتبراً أن تفكير الردع الإيراني تحطم بسبب الأحداث في غزة ولبنان وسورية، لكن إيران لاتزال طرفاً مهماً في المنطقة، ولابد من الحوار معها، متحدثاً عن قرارات صعبة مقبلة يجب أن تأخذها دول المنطقة وشركاؤها.

شهد المنتدى مشاركات ونقاشات غنية من مسؤولين حكوميين وأمميين من حول العالم وخبراء وأكاديميين وإعلاميين، تحت عناوين مثل «الاستجابات السياسية والعسكرية للصراع»، و»التفاعل بين الأمن العالمي وأمن الشرق الأوسط»، و»المقاربات الدولية لأمن الشرق الأوسط»، و»التحديات الدفاعية في عالم معقد». ويمكن تسجيل إعلانين مترابطين بشكل أو باخر شهدهما المنتدى يرسمان معالم مسارات قد تسير اليها المنطقة في الأشهر القليلة المقبلة، الأول: انضمام المملكة المتحدة الى «اتفاقية التكامل الامني والازدهار» الموقعة بين البحرين والولايات المتحدة، والثانية تعزيز إيران طاقتها الانتاجية لليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمئة الى 5 أضعاف.

«أوكوس» خليجي؟

في كلمته الافتتاحية، أعلن الزياني، انضمام المملكة المتحدة الى «اتفاقية التكامل الأمني والازدهار» (CSIPA)، الموقعة بين البحرين والولايات المتحدة في 2023، والتي تعد إطاراً لتعزيز التكامل الأمني الإقليمي، وترسيخ قدرات الردع المتبادل بمواجهة التهديدات الخارجية، وتوسيع التعاون في مجالات التجارة والعلوم والتكنولوجيا، عبر التعاون بين مجموعة أوسع من الدول التي تجمعها المصالح المشتركة ورؤية واحدة بشأن الردع والدبلوماسية والأمن والتعاون الاقتصادي وتهدئة الصراعات في منطقة الشرق الأوسط. وشدد الزياني في كلمته على أن هذه الاتفاقية ليس ترتيباً ثنائياً، ولم يستبعد دعوة دول اخرى للانضمام إليها.

وفي حين تستعد المنطقة لعودة دونالد ترامب الى البيت الأبيض في 20 يناير المقبل، حيث من المرجح أن يدفع باتجاه صيغة مخففة وربما مبتكرة على طريقته الخاصة من مقولة جورج بوش الابن: «إما معنا أو ضدنا»، فإن هذا الإعلان له دلالات عدة خصوصاً بالنظر الى أن المنطقة تفتقر عملياً الى هياكل إقليمية فعّالة تعمل على تعزيز الأمن والاستقرار الاقتصادي في الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن تحالف «أوكوس» الذي يجمع بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، يبدو أكثر تركيزاً على الجوانب العسكرية، ويختلف عن «اتفاقية التكامل الأمني والازدهار» في النطاق والتركيز، وربما في الأهداف الإقليمية، إلا أن التركيز المشترك على الابتكار التكنولوجي والشراكات الاستراتيجية وتعزيز الأمن في مناطقهما الخاصة، يجعل من تشبيه «اتفاقية التكامل الأمني والازدهار» باوكوس أو إطلاق عليه اسم «اوكوس الخليجي»، إغراء لا يمكن مقاومته.

عملياً تركز CSIPA وAUKUS على الأمن والدفاع في منطقتين ذات أهمية استراتيجية (الخليج والمحيطين الهندي والهادئ)، وعلى الأمن البحري، وهنا لا يمكن تجاهل استضافة البحرين للاسطول الأميركي الخامس وكذلك انفرادها بين الدول العربية بالمشاركة في عملية حارس الازدهار التي تضم 12 دولة بقيادة واشنطن لمواجهة هجمات الحوثيين اليمنيين على السفن في البحر الأحمر. كما أن الاتفاقيتين تعكسان التركيز المتزايد على الشراكات الاقليمية لمواجهة التحديات الناشئة.

في المقابل، يعد «اوكوس» إطاراً حصرياً كتوازن استراتيجي لمواجهة الصين، فيما CSIPA لا تبدو ان لها نفس الأبعاد الاستراتيجية العالمية. وليس واضحاً إذا كانت اتفاقية CSIPA ستكون موجهة ضد إيران مثلاً أو ضد الصين في وقت لا تخطط أي من دول مجلس التعاون الخليجي للتخلي عن سياسية التوزان الدبلوماسي المتبعة أو التضحية بالعلاقات المتصاعدة مع الصين خصوصاً في ظل الظروف الدولية المعقدة والاتجاه المتصاعد نحو عالم متعدد الأقطاب. وبينما تتميز «اوكوس» بمنح استراليا غواصات نووية، فلا يبدو أن CSIPA تحتوي، أقله في الوقت الحالي، على نفس المستوى من القدرات التكنولوجية المتطورة، كما يبدو العامل الاقتصادي في CSIPA أوسع منه في «اوكوس».

وقال د. بدر السيف، أستاذ التاريخ في جامعة الكويت، وزميل تشاتام هاوس لـ «الجريدة» إن اتفاقية csipa «ترفع من مستوى التعاون الأميركي- البحريني والآن البريطانيون، وتعود بالفائدة على الأطراف المعنية بلا شك، ولكن قد لا تكون الإطار الأمثل لهيكل اقليمي، فهي تمثل الحد الأدنى لطموح دول خليجية محورية مثل السعودية والإمارات وقطر. هذه الدول تطمح لتعاون أوثق بدليل المحادثات الأميركية - السعودية حول اتفاقية دفاع مشترك متضمنة ملفات عديدة، وضمانات أميركية أوثق وأوضح، وكذلك الإمارات وشراكتها الدفاعية الأخيرة مع الولايات المتحدة».

وأضاف: «ان كان هناك من هيكل اقليمي بمشاركة أميركية خليجية تنضم له دول الخليج، بما فيها مملكة البحرين، فهي تلك التي تتمحور حول الأفكار التي تم طرحها في السابق بين المسؤولين السعوديين والأميركيين».

وسعى مفاوضون أميركيون وسعوديون إلى التوصل إلى اتفاق يدعو إلى ضمانات أميركية رسمية للدفاع عن المملكة، بالإضافة إلى حصول السعودية على أسلحة أميركية أكثر تقدما، فضلا عن تبادل تقنيات ناشئة مع الرياض، ومنها الذكاء الاصطناعي، كما أشارت تقارير إلى أن المفاوضات تطرقت إلى مساعدة واشنطن للسعودية على بناء برنامج نووي سلمي.

القنبلة الذرية

من جانب آخر، لم يكن عشوائياً أن يختار المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، حوار المنامة لإعلان أن قدرة إيران على إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة نقاء تصل إلى 60 بالمئة القريبة من الدرجة اللازمة لتصنيع أسلحة نووية «تتزايد بشكل كبير»، فمنطقة الخليج ستكون الساحة الأولى للتداعيات المحتملة لأي تطور في الملف النووي الإيراني، بما في ذلك خطر إطلاق سباق نووي في المنطقة وحاجة دول الخليج الى ردع مماثل. وفي جلسة خاصة مع غروسي على هامش فعاليات المنتدى حضرتها «الجريدة»، أكد غروسي أن إيران لا تملك حالياً أسلحة نووية، وهذا أمر مؤكد، لكنه نبّه إلى أنها تبذل جهوداً لامتلاك القدرة على تصنيع سلاح نووي.

ويحذر بعض الخبراء من تأثيرات على الملف النووي قد تتسبب بها خسارة موقعها في سورية، ونجاح اسرائيل في الحرب الأخيرة بتقليص قوة حزب الله اللبناني، الذي كان يعد درة التاج في استراتيجية الوكلاء الإقليميين التي تتبعها إيران تحت عنوان حماية أمنها القومي من خارج حدودها، وعبّر توسيع نفوذها وزيادة الأكلاف على من يفكر في استهدافها.

ويرى هؤلاء أن إيران قد تعتبر أن حيازة سلاح نووي قد تكون السبيل الوحيد لطهران للحفاظ على موازين القوى في المنطقة وتوازن الردع الاقليمي، خصوصاً أن تبادل الهجمات مع اسرائيل اظهر ان الصواريخ والمسيرات لا تكفي للردع. وتتزايد التلمحيات والاشارات من طهران الى احتمال تغيير عقيدتها النووية.

والشهر الماضي، قال وزير الخارجية عباس عراقجي، عشية اجتماع مع دول الترويكا الأوروبية حول الملف النووي في جنيف، إنه «إذا استمر الغرب في التهديد بإعادة فرض جميع عقوبات الأمم المتحدة، فمن المحتمل أن يتحول النقاش النووي داخل إيران نحو امتلاك أسلحة نووية».

ورغم ذلك، استعبد جواد هيرانيا، مدير دراسات الخليج في مركز الأبحاث العلمية ودراسات الشرق الأوسط الاستراتيجية، ومقره طهران أن تلجأ إيران الى تصنيع قنبلة نووية.

وقال هيرانيا لـ «الجريدة»: «يبدو أنه مع انسداد طرق تعزيز محور المقاومة بشكل جاد من قبل إيران والظروف الاقتصادية السائدة، ستسعى إيران للحفاظ على العتبة النووية لتجنب عواقب امتلاك قنبلة نووية»، بما في ذلك خطر تعرضها لهجوم إسرائيلي - أميركي مشترك مع عودة دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة ووجود بنيامين نتنياهو على رأس الحكومة في إسرائيل.

وأشار الباحث الإيراني الى أنه في الوقت الحالي، قد تسعى إيران لتحقيق مدى أكبر لصواريخها، مشيرا إلى أن المرشد الأعلى علي خامنئي أجاز أخيراً بتخطي مدى الـ 2000 كيلومتر التي كانت طهران التزمب بها في استجابة لهواجس الدول الأوروبية.

وفيما اختتم حوار المنامة 2024 على وقع الزلزال السوري الذي سيكون له تداعيات على التحديات التي تواجهها المنطقة، تبرز قضايا الأمن الإقليمي والخليجي بوضوح كأولويات ملحة. من جهة، تعكس «اتفاقية التكامل الأمني والازدهار» نموذجًا جديدًا للشراكة الإقليمية والدولية القائم على تعزيز الأمن والاستقرار مع مراعاة الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية، ومن جهة أخرى، يظل الملف النووي الإيراني هاجسًا دوليًا وإقليميًا يتطلب التعامل معه بحكمة ودقة لتجنب انزلاق المنطقة نحو سباق تسلح أو صراعات أشد تعقيدًا. تبقى الحاجة إلى مقاربة خليجية جماعية متماسكة حيوية، مدعومة بشراكات استراتيجية دولية وبتوازن دبلوماسي يحقق استقرارًا مستدامًا.