سقط نظام الأسد وانهارت فزاعته، وساد الغموض سورية بشأن المستقبل، في ضوء تسارع التطورات وتعاقب الأحداث المتسارعة على الأرض، فصار لزامًا الآن حسنُ التقدير، واستثمارُ فرص التغيير الموجَب، والاهتمام بما يعبر عنه الشعب من تطلعات ومطالب، وما يتطلّع إليه من انتصارات.
ومعلومٌ أن سورية عاشت على وقع انقلابات وصراعات متتالية منذ 1963، وبعد أن استطاع حافظ الأسد التربع على الحكم عام 1970، أسس منظومة مستبدة تقوم على القمع، علاوة على إشغال الداخل بتوترات- تكاد تكون دائمة- مع دول الجوار، انعكست سلبا على سياسته الخارجية، مع ما رافقها من تداعيات على معيشة الشعب السوري.
فهل ينسى الناس أن النظام البعثي السوري جثم على صدور اللبنانيين لسنوات، وتورط في اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، قبل أن تضغط قوى إقليمية ودولية لخروجه من لبنان؟ وهل تناسى المراقبون اليوم أن الاحتجاجات بسورية انطلقت منذ ربيع التغيير العربي عام 2011، فلم تُوفَّر له في الشام الطرق السلمية والسياسية الأنسب للتفاعل مع مطالب الشارع، فكان القمع والتهجير بديلا لانتظارات المواطنين الحالمين بغد مشرق مُحَمَّل بعبق الياسمين، أو هكذا ظَنّوا!
ثم إنه عندما فضّل نظام بشار الأسد إدخال قوات أجنبية للدفاع عنه، في ما يمكن أن يشبه «نظام حماية جديد»، كان ذلك بداية فقدان سيادته على البلاد تدريجيا، وتسليم زمام قيادتها إلى الأجنبي في مقابل البقاء على كرسي ملغّم قد ينقلب إلى كرسي إعدام في أية لحظة! كما استمر نظام الأسد في ارتكاب المزيد من الجرائم ضد الشعب، ومع توالي السنين بدأت تتمركز في مناطق البلاد قوات وقواعد لروسيا ثم ميليشيات تابعة لـ«حزب الله» وإيران، وجماعات مسلحة أخرى من اليمن والعراق.
وحيث إن نظام بشار الأسد صار معزولا عن كل دعم شعبي داخلي، فضلا عن انهيار الجيش السوري نفسه، ثم بعد التطورات الدراماتيكية المتسارعة في كامل المنطقة (طوفان الأقصى، انهيار حزب الله اللبناني) فإن الحلفاء الأجانب لم يستطيعوا مواصلة حماية فزاعة الأسد، أو دعم استمراره عبئًا ثقيلا يجثم على الأنفاس، أو العمل على إنقاذه من نهاية باتت وشيكة.
فضلًا عن أن إيران أمستْ تفضل مصالحها الخاصة أولا، وأن حزب الله يُحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة كقوة عسكرية داعمة دوما لنظام سوري بعثي، وروسيا غيرت أولوياتها ولم تعد متحمسة لإنقاذ نظام آيل للسقوط السريع لا محالة، والنتيجة الحتمية لكل تلك الظروف والحيثيات بزغت عنها شمس صباح الثامن من ديسمبر لعام 2024، ومع إشراقها كان نظام بشار الأسد مجرد سطر في ماضي تاريخ الشام، وحلت محله زغاريد الأرامل والثكالى، وبسمات الأيامى واليتامى، وتَحَرُّر المعتقلين والمقموعين، وتكبيرات الحناجر التي كانت مهيّأةً للمشانق وفوهات البنادق في قابل الأيام.
وإن القراءات الأولية لما يحدث في سورية تؤكد أن الحسابات الجيو-استراتيجية بصدد التغير السريع في كامل المنطقة، تحضيرا لمرحلة ما بعد الأسد.
لقد أضاع بشار الأسد، كما والده من قبله، فرص المصالحة مع شعبه وتحقيق التنمية بما يعزز الجبهة الداخلية، كما أنه وضع نفسه والبلاد بين أيدي قوى أجنبية وجماعات مسلحة لحمايته، وفقد، بذلك، السيادة الوطنية، ولما انقلب عليه الجميع تحقق السقوط بسرعة استغرب لها الكثيرون عبر العالم، ومن المؤكد أن ما حدث يؤسس لمرحلة تاريخية جديدة ومختلفة في كامل المنطقة، وإعادة تموقعات موازين القوة والتي تتبدل تدريجيا في الشرق الأوسط بالخصوص.
إن التقدير السياسي الجيد يفرض التقاط إشارة الإصلاح وفرصه في الوقت المناسب، وأن تقوية الجبهة الداخلية وتعزيز الوحدة الوطنية هي الورقة الرابحة دائما لمواجهة كل المخاطر والتحديات.
وأملنا اليوم، ألا يضيع الشعب السوري، المتعب، هذه الفرصة الذهبية لإعادة البسمة إلى شفاه الحالمين بغد مشرق، متمنين للشعب السوري الأمان والاستقرار، ولكامل المنطقة السلم والاستقرار والازدهار.