وجهة نظر: حمود البغيلي ووضاح... رحلتان إلى المحطة ذاتها
كنت أقرأ «درايش» وضاح الجمعة الماضية فانتبهت إلى حكاية السفر في (بحور) الشعر وطبائع مسافريها من الشعراء، ولأني متشبع بالشعر حتى البشم، لم يكن يعييني أن أفرّق بين من يسافر في موسم هدوء البحار ومن يسافر في كل المواسم هادئها وعاصفها.
كما أني لست ممن يطلب من الشعراء صدق المشاعر أو صدق القول إنما يكفيني أن يبدع الشاعر في صياغة أبياته وإن كذب، ولا يعجبني صدقه إذا كانت صياغته دون ما يبلغ بالقارئ حد الطرب، فمقولة «أعذب الشعر أكذبه» دقيقة إلى حد ما، وإن كانت القصيدة الصادقة وذات الصياغة البديعة أجمل من (الأكذب الأعذب) بكثير، فالجمع بين الصدق والإبداع هو التحدي الحقيقي للشاعر على أنه إذا كان الخيار أحدهما فقط فإن الجانب الفني في القصيدة هو الذي يعنيني لأني أمام شاعر لا قائد مسيرة، فربط الشاعر بـ(أن تقول ما تفعل أو تفعل ما تقول) ليس صواباً.
ولا أنكر أن قراءتي الدائمة لدرايش وضاح هي امتداد لقراءتي الدائمة (سابقاً) لملحوظات حمود البغيلي، ورغم أن العرب قديماً كانت تفاضل بين الشعراء بقصائد المديح والهجاء وما عدا ذلك فلا يعتدّ به وإن بلغ منتهى الجودة، إلا أني لم أكن يوماً من الملتزمين بهذه القاعدة، فلم أعظّم ممدوحاً وأنا أعلم دونيته، ولم أهتم بمدح ممدوح وأنا أعلم رقيه، فالمدح لا يرفع عندي مقاماً متدنياً ولا يزيد في مقامٍ مرتفع، وموقفي من الشخصية العامة يقوم دائماً على قراءتي لسيرته لا لمدح المادحين، وقد وجدنا أن أغلب المديح والهجاء أساسهما المال لا القناعة بشخص الممدوح «أعذبه أكذبه».
ورغم تشابه أغراض «درايش» و«ملحوظة» وتقارب موضوعاتهما، فإن التمايز بين وضاح وحمود البغيلي يبدو لي واضحاً، فملحوظات حمود أكثر غنى بالمفردات وحمود نفسه أكثر مهارة في استخدام بحور الشعر وأقدر على الصياغة الفنية، في حين أن «درايش» أكثر تنوعاً في الموضوعات، ووضاح أكثر نضجاً في السياسة وأكثر قدرة على تلمس حاجات المجتمع، والمؤكد لدي أن حمود يغرف من بحر ووضاح ينحت في صخر، وأما مسألة «هل غادر الشعراء من متردم» فلم تصمد أمام الكم الكبير من الشعراء العباقرة الذين زخر بهم تاريخ الأدب العربي منذ الجاهلية حتى يومنا هذا، فالإبداع لا يتوقف أبداً، وما وضاح وحمود إلا امتداد لهذا الإبداع بغض النظر عن مستواهما قياساً للطبقة التي ينتميان إليها من الشعراء في زمننا هذا.
وربما كان حمود أكبر شاعريةً من وضاح لأنه أثبت علو كعبه في فترة كانت تعج بالمبدعين، لكن رغم ذلك لا يمكن تجاهل أن وضاح استطاع أن يحوز إعجاب آلاف المتابعين في هذه الفترة، ولذلك فإن المفاضلة بين الاثنين هي مفاضلة بين مبدع ومبدع، وأنا شخصياً أميل لشعر حمود البغيلي، وأميل لأفكار وضاح وآرائه.